وجدان بوعبدالله
سِتّون عامًا وتونس تجدد الأحكام الإسلامية، غير مكترثة بالانتقادت في الدول الإسلامية. إنها تكاد تكون خاصِّيّة تونسية: مجتمعٌ منَع تعدد الزوجات قبل ستين عامًا، ومنع الطلاق الشفوي وأقرّ الطلاق المدني، ومنح مَن وُلد من أب غير تونسي الجنسيةَ التونسية، وتشريعات أخرى كثيرة، يمتعض عند ذكرها كثيرون.
فقرة مهمة في دستور تونس ما بعد الثورة (دستور 2014)، تنص على المساواة بين الرجل والمرأة، لم ينتبه إليها كثيرون في البداية، لكن كان يكفي أن يعلن الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي في 13 آب/أوت/ أغسطس 2017 أن “لمساواة بين الرجل والمرأة التي أقرّها الدستور يجب أن تشمل جميع المجالات بما فيها المساواة في الإرث””، حتى اشتعلت نيران في الخارج قبل الداخل، متحدثة عن نشاز تونسي وانحراف عن الشريعة، رغم أن التيار الإسلامي في تونس في جزء منه تقبل فتح باب النقاش ولم يوصده، لا من باب “خيانة الشرع” بل من باب إعلاء قيم الاجتهاد التي يقوم عليها الدين الإسلامي وأوصى بها الرسول محمد عليه السلام. من ذلك قول القيادي في النهضة عبد الفتاح مورو عام 2019 إنه في حال صادق البرلمان على المساواة في الإرث سيطبقه.
لم تتبلور فكرة المساواة في الميراث كقانون في تونس بل ظلت حبيسة أدراج البرلمان. المقترح قديم يعود إلى عقود، تقدمت به منظمة نسائية في تونس: اتحاد المرأة، بإعلانها أن ””المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة قابلة للتنفيذ في تونس طبقًا للدستور وقانون القضاء على العنف ضد المرأة””.
رحل السبسي وقضية المساواة ما تزال حبيسة البرلمان، حتى بعض الأحزاب “التقدمية” ذيلتها في سياق تحالفات. لكني هنا أتساءل عن ذهن الرئيس الحالي، قيس سعيد، من نصجه بأن يعلن في عيد المرأة التونسية 13 أوت/أغسطس 2020 أن الجدل بشأن المساواة في الميراث بين المرأة والرجل “محسوم بنص قرآني لا يقبل التأويل؟ يومها قال سعيد صراحة: “الثورة قامت في تونس من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية قبل أن يتحول الصراع إلى معارك خاطئة وغير بريئة كالصراع عن المساواة في الإرث”.قوله ذلك، كان لافتاً فالرئيس قيس سعيد هو أستاذ قانون دستوري قبل أن يكون رئيساً، يعني يفترض به أن يعي تماماً علوية الدستور، وأن المساواة بين المرأة والرجل مدونة في دستور 2014، وأن أصل المطالبة بالمساواة في الإرث وإن كان سابقا بعقود لعام 2014 إلا أن منبعه “عدم تعارض القوانين مع الدستور”. يعني باختصار يجب مراجعة جميع القوانين التي تتناقض مع الدستور، وفي قصة الحال “القوانين التي تتعارض مع مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة بما فيها الإرث” يجب تغييرها.
خلفية دستورية ودولة مدنية
محاولة قيس سعيد الحسم بقبضة من حديد في موضوع المساواة في الإرث بالقول إن القرآن حسمها، يتعارض مع مدنية الدولة التي ينص عليها الدستور، فالشرع ليس منبع القوانين في تونس، وعقوبة السرقة ليست قطع اليد مثلا. الأمر الآخر الأكثر غرابة في كيفية الحسم التي حاول فرضها سعيد بعد أشهر من انتخابه، أنها تبدو مناورة سياسية وطريقة شعبوية أكثر منها محاولة لاستمالة التيار الإسلامي رغم وجود إسلاميين منفتحين على الحوار في هذه النقطة عملا بالاجتهاد، ولم يقفلوا باب النقاش فيه مثلما فعل الرئيس القادم من مرجعية “قانونية دستورية” يفترض أنه حارس الدستور قبل أي مواطن أو مختض أو قاض.
قصة المساواة في الإرث ومحاولة الحسم فيها بجملة من الرئيس جاءت لتقسم التونسيين أكثر من توحيدهم وكأنه يسكب زيتاً على النار. مرت أشهر على عيد المرأة التونسي، اليوم نحن بتاريخ 8 مارس 2021 وهو يوم المرأة العالمي، نعيش حرباً ضد وباء كورونا، وصراعاً من أجل المحافظة على مواطن رزق الرجال والنساء، لكن الحقوق لم تتحول إلى قصة ثانوية. سيعاد الجدل فيها مرة ثانية مثل قضايا أخرى حاولت جهات طمرها ولم تفلح.الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي الأسبق الذي منع تعدد الزوجات فور إعلان استقلال تونس عام 1956، لم يجرؤ على الخوض في موضوع المساواة في الإرث، قيل إن رجال دين نصحوه بأن لا يفعل لأن الميراث موضوع شائك أكثر من التعددية. القصة قصة مال، يقول البعض، لا علاقة لها بالشرع. رجال يريدون حصصهم من أراضٍ موروثة، ونصيباً يفوق نصيب النساء. لكن كما يقول الرئيس الراحل السبسي: “الإرث ليست مسألة دينية وإنما تتعلق بالبشر، والله ورسوله ترَكَا المسألة للبشر للتصرف فيها”.
العائل الوحيد: امرأة
تكرر العدل مراراً في القرآن الكريم، ولعل العدل اليوم يحث على إعادة النظر في قصة الإرث. المرأة التونسية تعيل أسرتها عوضا عن الرجل في تونس وفي حالات كثيرة هي العائل الوحيد. في أسر أخرى الزوج يفتك راتب زوجته ويتصرف فيه، رغم نهي الرسول عن المساس من مال المرأة دون إذنها، فأين العدل هنا؟ ولماذا لا أحد يتحدث عن وصايا الشرع هنا؟
أتحدث اليوم بموضوع المساواة في الإرث لا بلسان حال امرأة بل بلسان إنسان، أعياه الظلم والقهر في ربوع الكرة الأرضية، حيث النساء يحرثن والرجال يرفضون العمل في أراضٍ لا يملكونها لكن في المقابل يجنون عرق النساء وكفاحهن تحت شمس حارقة. هذه المساواة ستخلق مواطن عمل للنساء وستمنح كثيرات أراض يحرثنها عوض العمل أجيرات فيها. العدل أساس العمران. وربما التحجج بالشرع ينسف العمران مرة واحدة.