وجدي بن مسعود
لا تتوقف صرعات موضة الأزياء والملابس عن إبهارنا كل موسم بتصميماتها، وقدرتها على إحياء موديلات قديمة، خُيل للبعض أن الزمن قد تجاوزها.
العادة المتأصلة في صميم هذه الصناعة، أحيت زيًا تراثيًا تونسيًا أصيلًا لمواسم الأخيرة، وأعادت له توهجه.
فبفضل “بركات صرعات الموضة”، تحولت القشابية وهي لباس من الصوف، كانت ارتداؤها يقتصر على الأرياف والجهات الداخلية والجنوب التونسي، إلى تقليعة بين الشباب من الجنسين، تعرف إقبالاً رغم ركود بعض الصناعات التقليدية الأخرى، بعد أن شهد تصميمها إضافات وتحسينات تواكب العصر وتلائم الأذواق فتنوعت ألوانها بعد أن كانت من لون واحد تقريباً.
لباس الأمازيغ
تعد القشابية زيًا جبليًا صوفيًا، استعمله الأمازيع سكان تونس قبل دخول الإسلام، الذين استوطنوا المرتفعات بالجنوب والشمال الغربي، وهي مناطق تعرف بطقسها البارد خلال فصل الشتاء، وتهب عليها تيارات هوائية باردة وعاصفة، ما كان يفرض على السكان التأقلم مع إكراهات المناخ، عبر ابتكار هذا اللباس الذي يبدو تصميمه قريبًا من المعاطف الحديثة.
الحديث عن القشابية يستدعي الأصول الأمازيغية لهذا الزي الصوفي الثقيل، والمصنف ضمن قائمة طويلة من تراث “الرجال الأحرار” ما تزال حاضرة في العادات الغذائية والأزياء، وكذلك اللغة.
أصل الكلمة
يرجح الكثيرون أن أصل كلمة قشابية المستعملة باللهجة المحلية، مستمدة بدورها من جذور التسمية الأمازيغية لهذا اللباس.
هذه الرواية المتداولة مشكوك بصحتها، خاصة عند اكتشاف الجذر الأصلي للكلمة “قشب”، وهو مصطلح عربي صميم، ويفيد بين معانيه الصقل، وهو تفسير يبدو أقرب إلى فكرة القشابية، التي يتم نسج صوفها وحياكته بعد تليينه، بما يجعل شكله وملمسه ناعمين.
ومن المرجح وفق هذا التفسير، أن تكون القشابية و الاسم الذي أطلقه الفاتحون العرب والمسلمون على هذا اللباس، الذي كان ارتداؤه منتشرًا بين السكان الأصليين في إفريقية.
تعديلات فقهية
يشير الباحث في شؤون التراث محمد بابي في تصريح لبوابة تونس، إلى أن تصميم القشابية عرف تعديلات بعد الفتح العربي، عبر توسيع أكمامها تماشيا مع الفقه الإسلامي.
وبحسب بابي، فإن الحياكة التي درج عليها البربر، كانت تتسم بتصميمها الضيق عند اليدين والأكتاف، بما يزيد من تدفئة الجسم، قبل أن تفرض أحكام الوضوء تعديل الأكمام بما يسمح برفعها عند الغسل.
وعلى الرغم من التأثيرات الحضارية والثقافية الناتجة عن اتصال الثقافة العربية بالسكان الأصليين في إفريقية، إلا أن هذا النمط من الثياب بقي محصورًا في حدود شمال إفريقيا، حسب محدثنا، ولم ينتقل إلى المشرق أو الأندلس لاحقًا، رغم القرب الجغرافي والتواجد الكبير للعنصر البربري، وهو الأمر الذي يفسره “بالنظرة الاستعلائية التي كانت تغلب على العرب تجاه الأمازيغ، وعدم اهتمامهم بالاقتباس من نمط معيشتهم ولباسهم، وعاداتهم لعدة قرون”.
حياكة يدوية
تتخذ القشابية من صوف الضأن والنعاج لجودتها، كما يمكن استعمال وبر الجمال بالنسبة إلى أنواع أخرى كلفتها أعلى بسبب ارتفاع ثمن جلد الإبل.
وبحسب المختصة في الصناعات التقليدية ريم سلامة فإن لون القشابية في الماضي لم يكن يتجاوز 3 درجات، هي الأسود والأبيض والرمادي الذي ينتج عن خلط الصوف الأبيض والأسود.
“بعد عملية تليين الصوف الخام وقردشته، تتم عملية الحياكة على المنسج من قطعة واحدة، وتستهلك القشابية ذات الحجم العادي قرابة 3 كيلوغرامات من الصوف”، تضيف سلامة متحدثة عن مراحل التصنيع.
وتبدأ عملية الحياكة بحسب سلامة، انطلاقًا من تفصيل الجزء الرئيسي والتي تعرف “بالسدرة والظهر”، ومن ثم اليدين وغطاء الرأس.
تستغرق الحياكة على المنول التقليدي قرابة شهر واحد، وتعتبر الصناعة اليدوية أفضل جودة من نظيرتها الحديثة، إذ ما تزال تحظى بإقبال واسع، برغم المنافسة التي عرفتها بالسنوات الأخيرة من جانب شركات النسيج، التي تحاول اقتحام سوق صناعة القشابية.