فـوزي الصدقـاوي
كان اشتغال عزمي بشارة على رصد تجربة التيار القومي العربي ونقده وتقييمه (1)، من جهة العلاقة بمسألة الأمة والهويّة والديمقراطية، قد سجّل ملاحظات عميقة حول مسائل التأصيل الفكري وترشيد التجربة وتطلعاتها. لاسيما أنّ ظواهر الاحتراب الداخلي في بعض الدول العربية وما آلت إليه بعض الدول الأخرى العربية من حالة انهيار ،(العراق، السودان، لبنان، فلسطين، سورية، الأردن، الصومال..) كانت عبّرت حسب بشارة، عن فشل النخب الحاكمة وغير الحاكمة في إنجاز مهمة بناء الأمّة على أساس الانتماء إلى الدولة.
وعلى أساس تشكيل أمّة مدنيّة ذات هويّة وطنيّة من خلال المواد وبرامج التدريس، أو التثقيف لمعنى المواطنة والتدريب عليها، بما كان سيمثّل ضمانة مدنية ضد تغوّل السلطة واستبدادها، وما كان سيجعل من تحوّل هذه المواطنيّة إلى هويّة وطنيّة، واقعا ممكنا فعليّا.
ويذهب عزمي بشارة من منظور تأصيلي في نطاق التحديات التي تواجهها مهمة التجديد للفكر القومي العربي، إلى اعتبار بناء أمّة مدنية ذات هويّة وطنية على أساس المواطنة وحقوقها المكفولة، أساسا مبدئيا-ثقافيا، لما يمكن أن تؤديه هذه المبادئ من تجذّر لبناء قوميّة عربية ثقافية، تكون حاضنة وجامعة لغالبيّة المواطنين في الدول العربيّة، ومرتكزا موضوعيا لقيامها. وذلك لما لهذه الثقافة المدنيّة من قوة دفع نحو تشكيل مجتمع مدني عربي في علاقة بالمجال العام في الداخل من جهة، وفي بناء أمّة سياسية ذات سيادة من جهة العلاقة بالخارج.
ولعل أحد أسباب عدم قدرة الدولة الوطنيّة على بناء أمّة قطريّة، وفق عزمي بشارة، هو تشظي الدولة القطريّة، بسبب أن الانتماء القومي العربي للأمة/الدولة ظلّ محلّ تنازع حول كونه مشروع انتماء ذا طبيعة سياسية-ثقافية، وبين واقعيّة الانتماءات السياسيّة العشائريّة والطائفيّة، وأنّ الهويّة القومية العربية، مشروع انتماء ثقافي، بات يُنظر إليها، في نطاق نقد التيار القوميّ العربي، على أنّها رؤية رومانسيّة لقضية القومية العربية.
لقد كانت القوميّة العربية توسم من قبل نقّادها وخصومها بأنّها تعبّر عن نزعة رومانسية لدى حامليها، بينما يـغفل هؤلاء النقّـاد، حسب عزمي بشارة، عن كون أي ايديولوجيا قوميّة، تظلّ مسكونة بالضرورة بالحالة الرومانسيّة. وهذه الحالة تجد تعبيراتها المناسبة على وجه الخصوص، في الآداب كالقصة والشعر وفي الفنون كالمسرح والسينما والرسوم…)، وقد أنتجت الآداب الأوروبية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، (الفرنسيون، الإيطاليون، الألمان..) صورة ذهنيّة تشكّل من خلالها الوطن والشعب، فهذا المنتج الثقافي، كان ثمرة الرومنسية الكامنة بصورة مكثّفة في الفكرة القوميّة.
أمّا القوميّة العربيّة فإنّها إرث تاريخي وثقافي واجتماعي مشترك ومتنوع، يُرسّخ ويُراكم وعيا يستدعي الحاجة إلى وحدة العرب من حيث لهم مستقر على جغرافيا سياسية ممتدة وحيويّة. وهي تستدعي أيضا، حاجةً ملحةً إلى نشوء الدولة القطريّة، تجمع الانتماءات الدنيا وتتخطاها إلى معنى القانون والمؤسسات.
فهي بهذا المعنى، ليست “اثنيّة” قائمة على أوهام وأساطير مصطنعة، بل لها مقومات مادية وثقافيّة صلبة تاريخية حقيقية، بما هي جامع ثقافي من الدرجة الأولى وجامع سياسي حامل لتطلعات سياسية لإقامة دولة، ومنها جميعا تُصنع المصالح والثقافة وتؤسس لمشروع قوميّة حديثة. فهي بهذا المعنى حاجة عمليّة وبراغماتيّة، من أجل مجتمع حديث، تُزوّد العربي بهويّة ثقافيّة جامعة لترسيخ معنى انتماء الفرد السياسي على قاعدة المواطنة وحقوقها.
ويشدّد عزمي بشارة، في هذا الصدد، على أنّ عمليّة بناء أمّة مواطنيين للعرب وغير العرب، مسألة أساسية بالنسبة إلى الدولة العربيّة القطريّة وهي تعتمد على العروبة قوميّة لكونها تشكّل قاعدة للتعاون بين الدول العربيّة، ومقدمة للوحدة في المستقبل. وأن وجود تيار عروبي يشتغل على المشترك، ويحاصر الطائفيّة والانتماءات التجزيئية، ويندمج في الحراك الثقافي والشعبي بمشروعه الديمقراطي، ستساهم جهوده في تحصين الدولة على أساس المواطنة والانتماء إلى الهويّة القومية-الثقافية، وتوفير الضمانة لمشروع الوحدة، والدفع بها قُدما، نحو إمكان تحقق الأمة.
كما يواجه التيار القومي، في الأوساط العربية نقدا من بعض النخب العربية، بالطعن في نجاعته بتعلّةِ رومانسيته، بينما يغفل هؤلاء عن أنّ إعجابهم “برومانسية التنوير” التي بُنيت على أساطير غير صحيحة عن “التنوير”، وعن مؤسسيه، والحال أنّ هذا “التنوير”، على أهمية مخرجاته، لم يكن فكرا تنويريا في كل حال.
لقد تطوّر الشعور القومي في أوروبا تدريجيا من الملكيّة المطلقة إلى الرأسمالية المبكرة، واستطاع أن يُرسّخ في نطاقها فكرة توحيد الحركة القوميّة، وإنشاء الأمّة، وذلك من خلال الثقافة والتعليم والفنون والآداب والسنما.. وكانت فكرة التوحيد هذه تتحرّك، في ظلّ الرومانسية القوميّة التي تطوّرت أيضا في دول رأسماليّة متأخرة إلى أيديولوجيّة وتيار مركزي في المجتمع، تعبيرا عن رفضه انحلال الجماعة العضويّة، والعمل من أجل التحوّل الاجتماعي، والتحديث القسري من أعلى، لتخطي عتبة التأخـّر عن التطوّر الرأسمالي.. وإعادة تشكيل الجماعة المتخيلة القوميّة على أساس الانتماء الاثني، والتقديس للانتماء إلى الوطن والجماعة بدرجة عالية من الانضابط. وقد أدى هذا التمشي في عمليات التحديث في دول كإيطاليا وألمانيا وبولندا وروسيا، إلى إنتاج أنظمة شموليّة.
ويلاحظ بشارة في مجال التجربة العربيّة واتجاهات نخبها، أنّه يمكن أن نرى لدى المفكريين الرومانسيين، مثل زكي الأرسوزي، والمحدثين منهم مثل قسطنطين زريق وساطع الحصري، تأثـّرا بالغا بالرومانسية القوميّة الألمانية والإيطاليّة، دون أن تكون الفرص قد سنحت لهم بإقامة أنظمة شموليّة، فيما كان إيلاؤهم الأهميّة للتنظيم والتحديث ونشر العلم والتصنيع، كما ظل اهتمامهم بتلك التجارب الأوروبية، متعلقا بالإعجاب بسرعة إنجاز التوحيد الأوروبي.
لقد أنفقت نخب القوميين الأوائل المنخرطة في هذا المدّ القومي العربي، جهدا معتبرا في مسائل متعلقة بالتربية والتثقيف، وأفصحوا من خلالها عن حرصهم في تنشئة الشباب على القيم والأخلاق ومعنى الانتماء إلى الأمّة وفي إعداد البرامج للتأهيل والتربية والتعليم، مثل ساطع الحصري وطه حسين..وكان سعيهم هذا ينمّ عن وعي بالحاجة الضروريّة إلى بناء حاضنة ثقافية منيعة تؤسس للفكرة القومية العربية، غير أنّ غياب مثل تلك القامات في مراحل لاحقة، عن دوائر التنشئة والتربية والتعليم، كان وراء حالة الهشاشة التي صار إليها التعليم وأحد العناصر التي أدت إلى انهيار منظومات القيم الأخلاقية التي باتت عليها الحياة الثقافية والسياسية العربية في أزماننا.
وقد بات هذا الواقع الذي آلت إليه الحالة العربيّة الموصوفة اليوم، حجّة على بعض النخب العربية والماركسيين منهم على وجه الخصوص ممن ذهبوا إلى أن القضية الأخلاقية مسألة نسبية، وقولهم بإطلاقيّة العلم بدل إطلاقية الأخلاق، وإثارتهم السؤال عن المصلحة (طبقيّة..!) وفائدة القيمة الأخلاقية. دون الوقوف عند المرجعيات الأخلاقيّة للجماعة المحليّة، ودون الاستناد إلى قيم العدالة والمساواة والإنصاف، ما أخرج بعض هؤلاء النخبة، من دائرة العلم (العقل النقدي) ومن دائرة الفلسفة الأخلاقيّة، (العقل العملي)، وفتح الباب واسعا ليتحوّل هذا النوع من التفكير الإيديولوجي عندهم، إلى إيديولوجيا شموليّة. وهو أمر يحمل الفكر القومي على مواجهة نفسه بما يكفي من معاول النقد، يحفّزه على الاستمرار في تجديد رؤيته على أساس الثقافة الديمقراطية ومسألة المواطنة، قيمة عضويّة في الانتماء إلى الدولة، لا ـقيمة في الانتماء إلى القوميّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. عزمي بشارة، أن تكون عربيا في أيامنا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، 239 ص.