الفيلسوف المسكيني في كتابه الجديد: إسرائيل تطبيقة كولونيالية والتفلسف مقاومة وتحرّر 

هكذا تحدّث الفيلسوف المسكيني عن الغرب والحداثة والإنسانية والهوية والغرب والأمركة والديكولونيالية.. مقتطفات من زاوية حدث 7 أكتوبر بغزّة بما هو محفّز على التفلسف

عبدالسلام الزبيدي 

“هذه الذات ليست لك، صدوع ديكولونيالية” كتابٌ للفيلسوف فتحي المسكيني صدر عن “الأمينة للنشر والتوزيع” في مارس 2025. اسم الإشارة يحيل إلى شيء على مسافةٍ منك لتكون الذات التي هي أنتَ في موضعٍ خارجك! هي ذات يمتلكها الآخر فتمّت استعارتها منه تقليدا أو “استعمرك” من خلالها قسرا فظَنَنْتَ أنّ نفسك التي لا تعرفها هي تلك الذات. لسنا في مدار التساؤل ولا الدهشة، إنّها الصدمة بما هي ثمرة الفصل بين النفس والذات، وهي دعوة مبطّنة للبحث عن هذه الذات التي من المفترض أنّها لك.

ولنفترض قبول الإقرار بأنّ هذه الذات ليست لي، فأيّ السبل أسلك حتّى أعيد اكتشاف ما به تتقوّم ذاتي؟ يبدو أنّ العنوان لا يسعفنا ببيان الطريق المؤديّة إلى المقصد، ذلك أنّه يشير فقط إلى الوجه السلبي بشكل مضاعف. لن يجد المرء نفسه أمام نقد أو تحطيم أو تفكيك، بل أمام “صدوع” أيْ إحداث شقوق أو تشقّقات وذلك الوجه الأوّل من القول، وأمّا الثاني فهو لإنهاء الاستعمار أو طمس معالمه ومحوها، وذلك مدار عبارة “ديكولونيالية”. فحتّى نُعرِّف الذات التي هي أنفسنا التي لا نعرفها ينبغي أن نحدث صدوعا في ذلك الجدار السميك. ليست الغاية إحداث الشروخ وإنّما التهيئة لما بعد تلك المرحلة من الفعل التفكّري المسمّى تفلسفا.

الغرب استعارة جغرافية مسلّحة وطريقة اغتصاب

لن نخوض في مضامين الكتاب بتوطئته وفصوله السبعة وضميمته الممتدّة على 245 صفحة. فقد اخترنا أن نجوس بين دفّتيْ الكتاب في مسألة ذات علاقة بحدث طوفان الأقصى، ومنها نقف عند صدوع في تعريف “إسرائيل” والحداثة والغرب والأمركة. ليهدينا المسكيني تعريفا مستجدّا للتفلسف بما هو مقاومة وتحرّر. وقد يكون لنا عود للكتاب في حدّ ذاته بما هو علامة من علامات الجدل حول الديكولونيالية. هذا المصطلح الذي قسّم الخائضين في القول الفلسفي في تونس إلى فسطاطين… جميلٌ هذا الانقسام لأنّه دليل على أنّ هناك ما يمكن الاختلاف حوله، وأنّ التفلسف الآن وهنا ما يزال ممكنا.

قبل أن يفتح الفيلسوف فتحي المسكيني باب النظر في لحظة طوفان الأقصى ودلالاتها، يُذكِّرنا بما نسينا. فهذا “الغرب” هو تسمية ذاتية (سمّت نفسها) “لإنسانية غير مسبوقة دفعت بنموذج الدولة إلى أقصى مهجته: لقد تحوّل الغرب إلى دولة آكلة للدول، ومن ثمَّ لأجسام الشعوب غير الغربية”. فالغرب ليس أكثر من “استعارة جغرافية مسلّحة” وهو الوريث المباشر لكلّ أجهزة الهيمنة الحديثة من فكر ذكوري وسلطة أبوية وإله توحيدي وكتاب مقدّس والميتافيزيقا اليونانية والنظام الإقطاعي، كما استولى تباعا على النساء والطبيعة والعقل والله والأسْوَد والمثلي، ثمّ انتقل إلى مطاردة غير الأوروبيين باعتبارهم “خارج الإنسان”.

ليخلص المسكيني إلى القول بأنّ هذا الغرب يعتبر هذا الذي هو “خارج الإنسان” ليس مجرّد وجودهم فقط تهمة بل أنّ “الاتّهام طال هويّتهم نفسها”. فهو يتّهمهم بأنّهم ما يزالون أنفسهم وعليهم أن يتخلّوا عن هذه الأنفس ومصادرها. فأيّ وصف يلائم هذا السلوك: إنّه “كولونيالي”. وبذلك تمّ تعريف الغرب والكولونيالي أو بالأحرى الغرب بما هو كولونيالي، لتكون “كلّ علاقة بالكينونة من اليونان إلى أمريكا هي علاقة كولونيالية”، فالغرب استعارةٌ أي “طريقة اغتصاب محسوبة لكينونة شيء ما وترجمتها في صيغة قابلة للهيمنة”.

الولايات المتّحدة هي النموذج النمطي لـ”إسرائيل” 

من أجل ذلك يعتبر فيلسوفنا أنّ الوقت قد حان لفكّ الارتباط بين “الغرب” و”الإنسانية”، وبين الحداثة والمستقبل. وهذا الفصل سيعفينا من مأزق الحديث في لساننا القومي ولكن بـ”شكل غربي”. وهذا لا يعني “بناء سردية عن الهيمنة التي تخترق الترجمات بل كميّة الكراهة التي تتسرّب في شكل أنفسنا ما بعد الكولونيالية: كراهية مصادر أنفسنا كما كراهية الشكل الحديث أو الغربي من الإنسان”. ولهذه الكراهية أبطال عدّة على غرار الآخر والأنثى والأجنبي واليهودي التائه والإفريقي المستعبد والهندي الأحمر والمسلم والمثلي والغريب واللاجئ.

وهذه الكراهية ليست علاقة بين ذاتين أي بين كائنين متساويين في المنزلة الأنطولوجية أو الأخلاقية. إنّها علاقة عمودية بين “أنا” و”شيء”، ليكون المكروه ليس شخصا بل عدوّ تمّ تجريده من إنسانيته. وهنا يأتي السؤال عن معنى أن يبني شعب ما هويّته على كراهية شعب آخر؟ وجواب المسكيني هو “أنّ “إسرائيل” هي النموذج الأقصى عن الطابع الاصطناعي للكيان السياسي الحديث: إنّ ما يسمّى “الشعب” الإسرائيلي هو بناء سردي مصطنع تمّ اختراعه في أوروبا، لكنّه لم يحتفظ منه إلّا بآلة الكراهة.

فالشعب هو اختراع قانوني وليس واقعة طبيعية. أمّا “إسرائيل” فهي ما طبّقه شعب اصطناعي أجنبي بـ”سكّان أصليين” في أرضهم. فهذا الذي حدث وما يزال نوع غير مسبوق من الهيمنة تتجاوز سلطة الاستعمار إلى سلطة احتلال تفرغ الأرض من سكّانها كي تضع مكانهم شعبا اصطناعيّا مستوردا من أصقاع العالم، وهو ما يسمّيه المسكيني تقنية “إفراغ” أو فنّ “تشبيح”. ولذلك فإنّ تعدّد جنسيات الإسرائيلي -حسب المؤلف- ليس ترفا هوويّا بل هو بنية انتماء، فليس هناك إسرائيلي أصلي ولأنّه ينتمي إلى دولة أخرى فهو مواطن “في مهمّة خاصة” مكلّف بها في أوقات الفراغ. وكلّ “مواطن” إسرائيلي هو جسد مستورد، كتلة لحمية مستوردة من أجل ملء فراغ ساكن أصلي تمّ تفريغه من مكانه.

فالغرب( كما سبق تعريفه) اخترع إسرائيل كي يتخلّص من فئة مزعجة من سكّانه لم يتكيّفوا بشكل جذري مع الرؤية المسيحية لأوروبا، فضلا عن انفجار نظام الكراهية ضد اليهود في أواخر القرن الـ19 وبلغ ذروته مع الحرب النازية. من أجل ذلك كان مولد “إسرائيل” حلّا علاجيا لمرض أوروبي مزمن. وقد تحوّلت الضيافة إلى كارثة، فكيف يمكن أن تقبل في بيتك من يدّعي أنّه صاحب البيت قبلك بتفويض إلهي، “لذلك لم تكن ضيافة وإنّما خدعة حرب. وقد كانت “الولايات المتّحدة” هي النموذج النمطي لهذا النوع من “الدولة”: أي دولة الإفراغ والتشبيح وليس دولة “المواطنة”، وفق تعبير المسكيني. فما يسمّى “إسرائيل” ليس أداةً أمريكية بل هي تجسيد رائع للبراديغم.

على المظلومين اختراع شكل جديد لحياتهم 

وبعد أن كشف المسكيني ضمنيّات قول الفيلسوف الأوروبي بما هو “مسيحي” قد تعلمن، ونمط مشاركة اليهودي في الفلسفة الغربية باعتبارها تفكيرا من أجل تفكيكها، خلص إلى أنّ ما وقع في فلسطين هو حدث لا يمكن تبريره باسم القيم الحديثة للإنسانية الأوروبية. فادّعاء اليهودي العائد بأنّ أرض فلسطين هي وطنه “موقف تأويلي وحشي، كسّر قيم الحداثة حتّى في صيغتها الكولونيالية، فلذلك المرّة الوحيدة تقريبا التي عجزت فيها الإنسانية الغربية عن الدخول في تناقض أخلاقي مع نفسها، هي المرّة التي واجهت فيها قضية فلسطين”.

لنجد أنفسنا أمام ما يصفه فيلسوفنا بنوع غريب من الكولونيالية ليست هي كولونيالية السلطة بل كولونيالية الكراهية. ف”الكيان الصهيوني” ليس استعمارا بل سياسة ضغينة، ليس احتلالا للأرض بل للساكن الأصلي، هو ليس شكل حياة بل مشروع محرقة. ونظرا إلى أنّ سياسات الضغينة تحتاج عدوّا من نوع خاص “لم يجد اليهودي غير جاره الميتافيزيقي ( الفلسطيني) كبش فداء مناسب”.

وأمام حماية الغرب الكولونيالي لـ”دولة إسرائيل”لأسباب جيوسياسية تتعلق بالأمن العالمي، فإنّه يريد تأبيد الحداثة الكولونيالية على شعوب الجنوب، والعرب ليسوا استثناء. إنّه بصدد الاستفادة من كولونيالية الهوية التي اخترعوها. ولذلك يشدّد المسكيني على أنّه لا يجدر بنا مواصلة انتظار التحرير لا من الغرب ولا من الحروب الأخروية “على المظلومين اختراع شكل آخر لحياتهم، وعلاقة جديدة بأرضهم، ولغة أخرى للحديث عن أنفسهم. ومن الممكن الاستفادة منهجيا من معجم نقد الاستعمار أو النقد ما بعد الكولونيالي والعصيان المعرفي في مقاومة السردية الإسرائيلية عن الوجود الممنوع أو “اللاوجود ” المستحيل للفلسطيني حيّا أو ميّتا أو لاجئا أو أسيرا… “ولا يمكن تحرير الأرض قبل تحرير الحريّة ذاتها”. فالتنوير تقنية الأوروبيين تجاه شعوبهم، والتحرير تقنية الديكولونياليين ضد الحداثة الكولونيالية.

المتفلسفة وحدث 7 اكتوبر

بناءً على المنطلقات سالفة الذكر يشدّد على ضرورة التساؤل دون مواربة: هل “نحن” ننتمي إلى ما حدث في غزّة منذ 7 أكتوبر 2023 أم نحن خارج هذا الانتماء؟ هل نعثر “هناك” في هذا الشكل من “اليوم” على سؤالنا حول أنفسنا الجديدة أم أنّنا في حِلٍّ هووي من هذه “المعاصرة” المزعجة؟ وأوّل عناصر الردّ أنّ ما حدث يوم 7 أكتوبر هو ظهور “بعد جديد” لأسئلتنا عن “العصر” بوصفه شكلا من الانتماء، وبالتالي أيضا “مهمة جديدة للتفكير” في “من نحن اليوم”. ويضيف المسكيني أنّه “على المتفلسفة اليوم -إن وجدوا- أن يتلقّوا هذه الإشارة… بكونها تربطنا ربطا مباشرا بالمستحيل…بوصفه جدارا صخريا يفصلنا عن أنفسنا: نحن في نقل مباشر للكارثة، أي للتدمير المنهجي للجدار الأخلاقي لما يسمّى منذ القرن الثامن عشر “إنسانية عبر الإنتاج النسقي للجثث بوصفها أكياسا مبتذلة من الحياة”.

فما يحدث في غزّة… هو مشكل “كولونيالي” شديد الارتباط بالوجه المظلم من آلة “الحداثة”: هذه الترجمة الأوروبية للسلطة الكولونيالية على الشعوب الأخرى بوصفها مادة ومجالا وأداةً ومنجما. ليخلص إلى القول بأنّ “إسرائيل” تطبيقة كولونيالية وليست ذاتا لنحاورها.

هكذا تحدّث الفيلسوف المسكيني عن الغرب والحداثة والإنسانية والهوية والغرب والأمركة والسلطة والكولونيالية ونزعها.. هي مقتطفات من زاوية الحدث الفلسطيني بما هو محفّز على التفلسف، أمّا الكتاب الحدث في ذاته قد نعود إليه من زاويتيْ التقديم والقراءة وربّما الجدل المثار حوله.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *