تونس

الفضاء الرقمي لدى الأطفال.. حلبة عنف بلا قيود

يسرى ونّاس

معتقلو 25 جويلية

دور العائلة “مغيب” وإطار قانوني لا يواكب التطور التكنولوجي 

لم تعِ عائلات عدة في تونس مدى خطورة قضاء أبنائهم ساعات وساعات أمام شاشات الحواسيب والهواتف واللوحات الذكية وتمضية أوقات طويلة في صياغة تعليقات ساخرة على أحد المنشورات أو التنمر على صور أحد الأصدقاء أو في مواجهات ألعاب الفيديو.

ألعاب “عنيفة” جرّت عددا من الأطفال خلال السنوات القليلة الماضية إلى الانتحار مخلفين لوعة وأسى كبيرين في قلوب أسرهم وذويهم.

الواقع الافتراضي أصبح يحاكي بشكل كبير ما يحصل على أرض الواقع، إذ انتقلت عديد الظواهر المتفشية في المجتمع وبين الأطفال على وجه الخصوص من الفضاء العام إلى الفضاء الرقمي.

وأصبح التطور التكنولوجي بهذا الشكل عبئا ثقيلا يرهق المجتمع، فعوض الانتفاع بمزاياه فإن البعض تأثر فقط بجوانبه السلبية.

وبذلك أصبح الفضاء الرّقمي مجالا مفتوحا أمام الأطفال لا قيود تحده، ولا رقيب يحاسبُ خاصة مع قضاء أغلب الأوقات بعيدا عن أعين العائلة وانشغال الآباء والأمهات بمشاق الحياة وتوفير قوت اليوم .

ولا يمكن بكل الأحوال “تبرئة” الأسر من تفشي ظاهرة العنف الرقمي بين الأطفال والمراهقين على وجه الخصوص خاصة وأن دور الرقابة لديهم أساسي ولا يمكن أن تمحوه مشاغل الحياة اليومية والمهنية.

وتتجلى مظاهر العنف بين الأطفال في عدة ممارسات منها “التنمر” بين الأطفال والتحرش بعدد منهم أو ابتزاز آخرين إما بالصور أو بالرسائل الإلكترونية أو انتشار التعليقات الساخرة بينهم.

وتناولت عديد البحوث المحلية والأممية بالدرس هذه الظاهرة وخلصت في مجملها إلى ضرورة حماية براءة الطفولة من هذه الممارسات “الخشنة” فضلا عن مراجعة الأطر القانونية وأقلمتها بما يتماشى مع التطورات التكنولوجية التي يشهدها عالمنا.

هذه الممارسات شكّلت تيارا جرف العديد من الأطفال والمراهقين الذين باتوا مدمنين على “الحياة الرقمية” خاصة في غياب دور الأسرة.

نزيف العنف الرقمي لن يتوقف برأي الكثيرين وسيظل في تزايد بتقدم التكنولوجيا وهو ما يدق جرس الإنذار بشأن المخاطر التي يخلّفها ما يسمى أيضا “بالعنف السيبراني”.

وفي نوفمبر الماضي، أطلقت تونس “الخطّة الوطنية لمكافحة العنف المسلّط على الطّفل في الفضاء الرقمي”، وذلك في إطار الذكرى السنويّة لصدور الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل وانطلاق شهر الحماية من 20 نوفمبر إلى 20 ديسمبر، تحت شعار “في الوقاية حماية” .

 تطوير الإطار القانوني ضرورة 

وطالب رئيس جمعية حماية حقوق الطفل في تونس معز الشريف بتطوير الإطار القانوني بغية توفير الحماية اللازمة للأطفال في ما يتعلّق بالجرائم الإلكترونية التي تفاقمت في الآونة الأخيرة.

وشدد الشريف في تصريح لبوابة تونس على ضرورة أن تكون مجلة حماية الطفل مواكبة لآخر التطورات التكنولوجية والممارسات في الفضاءات الرقمية.

 واقترح رئيس الجمعية أن يتم تطوير الوسائل الوقائية أولا بإدراج مادة التربية على الإعلامية لكل الأطفال بكل المدارس.

وأوضح الشريف أنّ مجلة حماية الصادرة منذ 1995 تتطرّق إلى الطفل الجانح والمهدد دون التطرق إلى الطفل الضحية وخاصة منهم ضحايا الاعتداءات السيبرانية.

وأكّد أن الجمعية تقدمت بعدة مقترحات لتطوير المنظومة القانونية إلا أنها ما تزال معطلة لدى وزارة العدل.

واعتبر أنه لا يوجد مجهود كاف مبذول من قبل مؤسسات الدّولة لتوفير كل وسائل الحماية في الفضاءات الافتراضية للأطفال وهي مسؤولية موضوعة على عاتقها وواجب دستوري يجب أن توفره.

 كما يرى أنّ حرمان الأطفال من الولوج في المواقع الإلكترونية لن يكون حلا في ظل ما نعيشه من ثورة رقمية.

وتابع: “نرغب من خلال هذه الثورة الرّقمية أن يكون أطفالنا مواكبين لهذه التطورات بصفة واعية دون تركهم كالدّمى تتحكم فيهم هذه الوسائط الحديثة.

حماية شبه منعدمة

وأرجع رئيس الجمعية تزايد ظاهرة العنف الرّقمي إلى عدم توفير الحماية للأطفال وتوعيتهم بمخاطره.

واعتبر الشريف أنّ الرقمنة ستفتح أبواب المستقبل ويجب أن نربّي الأطفال على استعمال وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل عام حتى يكونوا قادرين على التمييز بين ما هو إيجابي وسلبي.

واعتبر في هذا الصدد أن الاقتصار على رقابة الأولياء غير كاف.

ولفت إلى وجود تطبيقات مجانية تتيحها الوكالة التونسية للسلامة المعلوماتية لحماية أبنائهم من ممارسات العنف الرقمي وتداعياته.

وأشار الشريف إلى أنّ انتشار الألعاب الإلكترونية العنيفة رغم منعها على أعمار معينة أدى إلى تبسيط العنف واللجوء إليه والخلط بين الفضاء الافتراضي والفضاء الحقيقي لدى الأطفال.

وأوضح أنّ مفهوم الموت يصبح وفق هذه الألعاب اعتياديا سيما أن نسبة مهمة منهم تعيد تجسيد تفاصيل اللعبة على أرض الواقع.

هدف رقمي

وأكّد الشريف  أنّ العائلة والأوساط التربوية تسببت في كثير من الأحيان في الزج بالأطفال في متاهات العنف الرقمي والتهديد السيبراني.

وأوضح أنّ قانون حماية المعطيات الشخصية للأطفال يحرم على الجميع نشر صور أطفال وبياناتهم الشخصية خاصة الوالدين دون ترخيص من قبل قاضي الأسرة .

وأكّد أن إقحامهم في العالم الرقمي دون إرادتهم جعل منهم هدفا لحسابات وهمية تقوم لاحقا بابتزازهم واستغلالهم جنسيا.

فضاء متاح

 

وتقول أخصائية علم الاجتماع صابرين الجلاصي إنّ “الفضاء الرقمي أصبح اليوم متاحا لكل الفئات الاجتماعية سيما منهم الأطفال وهو ما فاقم ظاهرة العنف فيه إذ أصبحنا إزاء جيل رقمي بامتياز.”

وأشارت إلى أن الفضاءات الرقمية تعزز العنف وأن آخر الدّراسات كشفت  أن قضاء ساعة أمام مواقع التواصل يعادل استهلاك غرام من مادة الكوكايين وبالتالي الدخول في طور الإدمان.

وتابعت الجلاصي في تصريح لبوابة تونس أن تعزيز تصور الفردانية لدى الأطفال ناتج عن حرمان عاطفي وسط العائلة وتغليب المصلحة الذاتية لبعض الآباء والأمهات.

وأضافت أنّ المجتمع التونسي لم يتسثمر الوسائل الرقمية في التطوير وإنما في تغيير أخلاقيات المجتمع.

وينقسم العنف الرقمي بين الأطفال إلى صنفين معنوي ولفظي، وفق محدثتنا.

فضاء بلا رقيب

وأرجعت الباحثة تفاقم الظاهرة إلى ضعف الدور الرقابي لدى الأولياء الذين تخلّوا عن الجانب التربوي تدريجيا وانعتقوا من بعض المسؤوليات عبر توفير كل الوسائط الرقمية لأبنائهم .

وأضافت أنّ الدور الرقابي للعائلة أصبح مغيّباً في ظل هذا التدفق الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي.

وأدى ذلك -حسب محدثتنا- إلى انعدام الحياة الاجتماعية للأطفال بل أصبحوا أمام فضاء إلكتروني افتراضي أكثر استهلاكا عوّض حياتهم اليوميّة وأصبح حلبة لرد الفعل الذي يعجزون عنه في الواقع.

وأوضحت أن الفضاء الرقمي دون قيود يصنع فيه الطفل هويته الافتراضية المتخفية ويعبر عن ممارسات يرى أنها مقموعة في الفضاء العام .

وحسب محدثتنا فقد انتقل التنمر وهو أحد أهم تجليات العنف اللفظي من الفضاء العام المتمثل أساسا في المدرسة إلى الفضاء الرّقمي .

ولفتت إلى أن التنمر يصدر في كثير من الحالات عن الأساتذة أو الأولياء فيستبطن الطفل هذه الممارسات ويصاب بقهر نفسي يتصاعد شيئا فشيئا فيخرج لاحقا في شكل عنف مسلط على أحد أصدقائه.

ومنح الفضاء الافتراضي الأطفال الحرية المطلقة والانحلال الكامل من كل رادع وأصبحوا ضمنه يعوّضون الحرمان العاطفي والاحتواء النّفسي العائلي ما جعلهم يتوجهون إلى ممارسات عنيفة وصلت في كثير من الأحيان إلى الانتحار.

في المقابل ترى محدثتنا أن من يتعرض للعنف يشعر بهشاشة في علاقة بأبويه وبفراغ كبير وعدم وجود من يوجهه ويحيطه.

وتعتبر الجلاصي أن ضرورة التقليص من الظاهرة يتطلب أوّلا التخلص من سلوكات بينها التنمر في الوسط العائلي ومراقبة المواقع الإلكترونية التي يرتادها الأطفال فضلا عن عدم منح من تقل أعمارهم عن 12 عاما هواتف ولوحات ذكية.

كما شددت على ضرورة توجيه الأطفال نحو الانخراط في الأنشطة الرياضية والاجتماعيّة واحتوائهم عاطفيا من قبل الوالدين وتعزيز الثقة لديهم وتكثيف التواصل معهم.