تونس

الغش المدرسي…تراجع المعرفة وانتشار “ثقافة المخاطرة”

لم تعد محاولات الغش المكتشفة في امتحان الباكالوريا في تونس مجرد حالات محدودة لا يقاس عليها، بل أضحت ظاهرة تستدعي الدراسة والتوقف عند دلالاتها.

مئات محاولات الغش اكتشفت خلال مناظرة العام الحالي، ما يشير بوضوح إلى تحولات عميقة وخطيرة في سلوك التلاميذ الباحثين عن أسهل سبل النجاح حتى وإن كلفهم الأمر المخاطرة بمستقبلهم العلمي والدراسي.

الغش في امتحانات البكالوريا، أصبح عقلية منتشرة في ظل تشجيع عديد الأولياء واستثمارهم في توفير الموارد المالية والإلكترونية الحديثة لتسهيل محالات الغش، وفق ما كشف عنه وزير التربية فتحي السلاوتي.

فما العوامل التي تفسر تفاقم ثقافة الغش المدرسي والتي تدفع الآباء لتشجيع أبنائهم على تبني هذا السلوك؟

بوابة تونس استطلعت قراءة الباحث الأكاديمي وأستاذ علم النفس الاجتماعي للظاهرة ومؤشراتها.

مجتمع المخاطر

يربط ممدوح عز الدين تفاقم ظاهرة الغش بتحول المجتمع التونسي المتسارع نحو “ثقافة المخاطرة”، والتي يطلق عليها عالم الاجتماع الألماني “إيرشماغ” تسمية “مجتمع المخاطر”، وهي السلوكات الجماعية الصاعدة مع انتشار العولمة المتوحشة وثقافة الاستهلاك.

وتتمظهر ثقافة مجتمع المخاطر في تونس حسب الأستاذ عز الدين، في تراجع قيمة العلم والمعرفة لدى الجيل الجديد كمصعد اجتماعي وفكري، ليصبح المراهقون والتلاميذ في سعي دائم  إلى تحقيق أهدافهم ومصالحهم الفردية وطموحاتهم على حساب الاعتبارات الأخرى، نتيجة تفشي الثقافة الاستهلاكية والفكر السطحي القائم على المظاهر.

ويلفت الأستاذ عز الدين في هذا الصدد إلى أن معيار النجاح والوجاهة الاجتماعية تغيرت، وصارت مرتبطة بالمستوى المادي والقدرة على الانفاق والاستهلاك والشكل الخارجي، وجلب الاهتمام إلى منصات التواصل الاجتماعي “التي أصبحت أكثر أهمية مما يراكمه الفرد من علوم وجهد وعمل”.

 تراجع مكانة المعرفة والتحصيل العلمي يرجع إلى عوامل عدة حسب محدثنا، أبرزها ضعف دور المؤسسة التعليمية، وكذلك مسؤولية وسائل الإعلام والميديا في خلق قناعات جديدة وترسيخ مفاهيم الربح السريع والنجومية الزائفة، مضيفا: “الأعمال الدرامية أو البرامج الحوارية لا تقدم نماذج لتلاميذ متألقين وطلاب تحصلوا على شهادات علمية عليا، ولا تعمل على إبراز الإضافة الحاصلة لهم إنسانيا واجتماعيا”.

انهيار القدوة ومنظومة القيم

وإلى جانب النزعة الفردية المخاطرة، يشير الأستاذ عز الدين إلى انهيار منظومة القيم العامة والمشتركة اجتماعيا، في مقابل تفشي ما يطلق عليه “قيم السوق” القائمة على المردودية والنتيجة، بقطع النظر عن الأسلوب المتبع في تحقيق الأمر.

ويرى الباحث الأكاديمي في علم الاجتماع، أن هذا الانهيار القيمي فسح المجال أمام حالة من الانفلات السلوكي والاجتماعي والثقافي تربى عليه الجيل الجديد ممن تفتح وعيه على مدار السنوات العشر الماضية، مضيفا: “بعد الثورة انتشرت مفاهيم جديدة من قبيل المواطنة المتمردة والاحتجاجية، وتلاشت ثقافة الانضباط للقواعد المحددة من الدولة والقوانين، وبالتالي فمن الطبيعي أن تترسخ عقلية التسيب والانفلات لدى الجيل الجديد الذي صار يبحث عن النجاح بكل الوسائل”.

الاستثمار في الغش

وإجابة عن سؤال بوابة تونس، عن توجه عدد كبير من الأولياء إلى توفير الموارد المالية لعمليات الغش، بين الأستاذ ممدوح عز الدين أنها تعكس انخراط العائلات في ثقافة المخاطر.

ولفت محدثنا إلى أن هذه الممارسات تعتبر امتدادا لسلوكات أخرى، مثل قيام العائلات بتوفير القيمة المالية لعمليات الهجرة غير النظامية لأبنائها في السنوات الأخيرة، نتيجة الإحساس بانسداد الآفاق.

كما يرتبط الأمر بطغيان العقلية الاستهلاكية وثقافة المظاهر على المجتمع بعد أن كانت منحصرة على مستوى أجيال الشباب، وأصبح الآباء يولون أهمية لنجاح أبنائهم للتفاخر وفي ذلك يتنافس المتنافسون، وكذلك خوفا من الوصم الاجتماعي في حالة إخفاقهم ما يدفعهم إلى استعمال الوسائل غير الشرعية والغش لتحقيق هذه الغاية.