لقد أثبتت الثورات العربية أن المشتركات بين المجتمعات العربيّة، حميميّة بما يجعل من تأثيرها فوريا، وتفاعلها مباشرا ومتبادلا وواعيّا، وأن تلك المشتركات العربية تستدعي مشروعا عربيا واحدا يُـعبّر عن أحلام شعوبها
فــوزي الصــدقاوي
يثير الربيع العربي أسئلة الأساسات، ويتولى خطاب الثورة التونسية وشعاراته تحديد المرجعيّة والأصول وتصميم الحدود وإعادة هندسة العلاقات الداخليّة بالدولة والخارجية، بينما تتولى المناقشات التي تستهلّها الثورة، والمراجعات التي تعاود فيها النظر، رسم فسحة الهويّات وتجذير الانتماء. أمّا الشارع الثوري فتعهد له مهمّة إعادة إنشاء المعنى وتركيب المفاهيم، على النحو الذي تكون “الرعـيّـة” قد تحوّلت بما أنجزته من ثورة إلى شعب “يريد الحياة”(1).
فاللحظة الثوريّة في تونس، بما تداعت له، تعني عند عزمي بشارة، فرصة لأقطار العرب، عساها أن تمد جسورها إلى المستقبل، حيث يُـعاد فيها ترميم علاقة ما بدا في القطريّة خاصا وتعدديا ومختلفا، بما هو في الفضاء العربي عام وجامع(2).
يُعدّ التمسك في تونس بالهويّة العربية الإسلاميّة، واحدة من جبهات نزاع كثيرة، خاضتها فئات واسعة من الشعب التونسي ضد خيارات الدولة الحديثة، وضد سياسات التغريب، وما أرسته من علاقات دوليّة، وبوجه مخصوص، من علاقة تحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما أنّ شرائح واسعة من الشعب التونسي، ظلت ترفض سياسات الاستعمار الناعمة، والتي استهدفت بالطمس أصول ثقافة التونسيين وهويتهم العربية الإسلاميّة.
ولقد بلغت جهود ترسيخ هويّة عربيّة عامة، حالة من التوافق مع ما يجري من مراجعات للفكر القومي العربي الذي تطوّر وأصبح يعتبر الوطنيّة عنصرا شرعيا خاصا، لا يتناقض مع الكيان العربي العام، كون القُطْريّة ليست نفيا للهويّة القوميّة. بل يتحقق التكامل بها، في ظلّ تعدد الهويات الخاصة وتنوّعها. لكن أن يُرفع شعار لقضيّة عربية عامة، من قبل سلطة أو تيار قومي، ثمّ يُفرض في مجال قطري عربي، دون أيّ مراعاة لقضايا ذات خصوصيّة محليّة.
فذلك ليس نهجا تنشأ عنه ثورة أو يُراكِم وعيا ثوريا عربيا، فالخصوصيّات القطريّة المتعلقة بقضايا الناس، ما لم تكن ضمن برنامج الثورة، فإنّ شعارات العروبة ستظلّ، في حالة فِصام مع الواقع وجمهوره، لكون مثل تلك الشعارات، على أصالتها، غير مشغولة بقضايا البلد وجمهوره. وربما يُدان لأجل ذلك، الناطقون باسم العروبة، إن كانوا يمثلون سلطة الاستبداد، أو كانوا سدنة مؤسساته.
فالاستبداد لا يمكن أن يُبرره شعار إيديولوجي ترفعه (العروبة أو الإسلام أو الشيوعيّة أو الاشتراكيّة أو الليبراليّة..) فكما الكرامة مطلوبة لذاتها، والخبز مطلوب لغيره، فإنّ الحريّة مطلوبة لذاتها والايديولوجيا مطلوبة لغيرها، وهذا الفارق يدركه عموم الناس أكثر مما تدركه نخبتهم “المؤدلجة”. فالثورة يصنعها الناس، من أجل الخبز، ومن أجل الكرامة أيضا ومن أجل تأكيد الانتماء إلى هويّتهم العربيّة.
والثورة تصنعها النخب لأجل الأسباب المشار إليها آنفا، وأيضا لأجل استعادة السيادة الوطنيّة المنتقصة، ولأجل حلم الوحدة العربيّ، وتحرير فلسطين، وهو ما هتفت به شعارات الثورة التونسيّة، وهتفت به من بعدها الثورات العربيّة المتلاحقة.
لقد ظل تطوّر الدولة في تونس زمن بورقيبة، يتجه نحو بناء المؤسسات بماهي أساس لشرعيّة الحكم، وإلى ترسيخ هويّتها الوطنيّة، فأهميّة الدولة الوطنيّة أنّها يمكنها أن تؤطّر، صراعاتها الداخليّة وأن تديرها وتستوعبها وتجدد بها قواها، وهي متحفّزة أيضا، لمنع التدخل الأجنبي، فوطنيّة المؤسسات، تتمتع بقابليّة تحيّد الدولة، عندما ينشُبّ صراع بين الشعب والنظام.
لقد أثبتت الثورة التونسية والثورة المصريّة، أنّه لا تعارض بين ما هو قومي وما هو وطني، وأنّ النضال من أجل الديمقراطيّة يعزز العلاقة بين القومي والوطني، لأنّه يعزز مطلب الحريّة والسيادة الوطنيّة، وأن التحرر من الاستبداد لا يؤدي إلى انتقاص السيادة الوطنيّة أو إلى فتح الأبواب أمام التدخل الخارجي، وإنّما الاستبداد من يوفّر شروط استقدام الأجنبي وربما يراهن عليه ليسند سلطته ويضمَن بقاءه فيها.
ومثلما فاجأت الثورة التونسيّة مثقفين عرباً، لم يكونوا يجدون غضاضة في القبول بالتدخل الأجنبي لفرض الديمقراطيّة، فإنّها فاجأت دولاً كبرى كانت دائما حليفةً للنظام التونسي، وظلت على الدوام تدّعي أنّ مساعيها في نشر الديمقراطية في العالم، خيارا استراتيجيا، تُـنفق لأجله المساعدات التحفيزية .
لقد أثبتت الثورات العربية أن المشتركات بين المجتمعات العربيّة، حميميّة بما يجعل من تأثيرها فوريا، وتفاعلها مباشرا ومتبادلا وواعيّا، وأن تلك المشتركات العربية تستدعي مشروعا عربيا واحدا يُـعبّر عن أحلام شعوبها، فإندونيسيا مع ما لها مع الدول العربيّة من مشتركات إسلاميّة فإنّ ثورتها التي أسقطت نظام حكم سوهارتو في ماي 1998، لم يكن لها تأثير في أي دولة عربية أو مجتمع عربي، لكن تونس الدولة العربية الصغيرة، أمكن لثورتها في ديسمبر 2010-جانفي 2011، وأمكن لوقعها ووقائعها ولخطاباتها وشعاراتها، أن يكون لها أثر في مصر، ومجمل بلاد المشرق العربي، وذلك لكون المجتمعات التي تلقت الأثر، كانت بمشتركاتها العربيّة، تتوفّر على “القابلية للثورة”.
لكن مثلما لا يأتي الخُطاف بالربيع، فإنّه يجب أن لا يُــفهم أن إحراق مواطن عربي لنفسه، من شأنه أن يأتي بالثورة، فالشرط الذي يجعل الثورة ممكنة، هو السياق الذي يتوفّر على قابليّة تحققها.
ويمكن أن نلاحظ أيضا، أن المجتمع التونسي كان جاهزًا للثورة، بمعنى، أنّه كان جاهزا ليحوّل انتفاضته إلى ثورة شعبيّة لها مطالب سياسيّة، ومع كل ما تضمنه المجتمع التونسي من القابليّة للثورة، فإنّ الجيش لم يكن “جاهزا” لإطلاق النار عليها، وهو عنصر يضاف في الحالة التونسية، إلى رصيد القابليّة ومكوّناتها.
ويعتقد عزمي بشارة أن هناك رغبة عربية عامة في التغيير، وأنّ الحالة الثورية التونسية، في ظلّ تلك البيئة العامة ستجعل من “العقد القادم عقد التونسة” كما يقول، وأن المباغتة التي شُوهدت في تونس ومصر، ستجعل من الأنظمة الاستبدادية العربية الاُخرى، تتوجّس من كل تملمُلٍ شعبي، خشية أن تفاجأها انتفاضة لا تعلم متى تنشب، ومن أين، وكيف تمتد، وفي أي لحظة تتحوّل إلى ثورة عارمة؟ وهي أسباب كافية لتُـصاب هذه الأنظمة الاستبدادية برُهاب التجمّعات البشريّة، وهي بسبب تراخي مؤسساتها وهشاشة شرعيّتها ، ستكون بحسب بشارة، على الدوام في وضع الطوارئ، وفي حالة استنفار، كون الحالة الثورية تنشأ فجاءة، ومن العسير توقـّــع لحظة تحوّلها، لأنّ الأفراد الذين يتحوّل بهم العمل الاحتجاجي إلى انتفاضة، هم الأفراد الذين يتصرّفون جميعا زمن الثورة بوصفهم شعبا لا رعايا، لأنّهم متى ظلوا رعايا فلن يكونوا أصلا للسلطة ولا مرجعاً لها، ولن تُستَمَدُ منهم شرعيّة.
فـ”الشعب” الذي استبطن في نفسه، لوقت طويل صورة “الرعيّة”، يتعافى بالثورة من فِصَامِه، ويُغادر في تلك اللحظة الثورية معناه المجازي، فيخرج “الشعب” من تجريد/ وتجويف الخطابات الايديولوجية العربيّة، ليتخذ فعليا مظهره السياسي الواقعي، باستدعاء لحظة شعريّة عميقة، هي في ذاكرة التونسيين ملحميّة وراسخة ومثقلة بالتاريخ وبدلالات التحرّر والتحرير: “الشعب يريد”، فهو شعار يحيل في كل محطة للتونسيين مصيريّة، على لحظة نضال شعبي من أجل التحرر (“برلمان تونسي”-أفريل 1938)، وعلى ذاكرة كفاح ومقاومة، من أجل التحرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إرادة الحياة، هو عنوان قصيدة أبي القاسم الشابي، نظمها سنة 1933، ومن أشهر أبياتها (إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاة**َ فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدر)، وهو بيت تضمنه النشيد الوطني التونسي، ويردده التونسيون في محطات مهمّة من تاريخهم، لاستجماع الهمّة للخروج من ضعفهم والتكاتف من أجل تغيير أحوالهم إلى الأفضل، أكان في مواجهة الاستعمار الفرنسي، أو في مواجهة الاستبداد.
(2) عزمي بشارة : الثورة التونسية المجيدة،بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها، مركز الأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، 2012، 496 ص.