تفخر بعض جهات المغرب بتراث غنائي بدوي يسمى “فن العيطة” وهو بالنسبة إلى سكّان الأرياف هوية ثقافية تميزهم عن سكّان المدن، وسلاح فريد حاربت به المغرب الاستعمار الفرنسي.
هذا الفن في حاجة اليوم إلى إحيائه من جديد وإنقاذه من الاندثار وإعادة الاعتبار له لا سيما بعد رحيل إحدى أهم روّاده الحاجة الحمداوية التي وافتها المنية صباح الإثنين 5 أفريل.
هوية البدو أهل الريف
يعود فن العيطة إلى القرن التاسع عشر، نشأ بين قبائل دوكالة والشاوية في الريف المغربي بمدن الدار البيضاء والجديدة وآسفي، حسب بعض المؤرّخين .
العيطة، نمط غنائي شعبي يستمد تعريفه من اسمه، وتعني العيطة: النداء أو الاستغاثة بصوت مرتفع، يطلقها شيوخ هذا الفن كأنهم يستنجدون بأسلافهم لتلبية طلباتهم، وفق اعتقادهم.
ويعرّف كتاب “غناء العيطة: الشعر الشفوي والموسيقى التقليديَّة في المغرب” هذا الفن باعتباره “ذلك النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشريَّة والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفرديَّة والجماعيَّة مثل النزف الدافئ، وقصائد شعرية منظومة بحبكة وثراء لغوي لافت، تعكس المخزون الثقافي لأهل البادية وقدرتهم على الارتجال وخلق الكلمات للتغني أو التحفيز أو الرثاء.
تؤدي هذا الفن عادة النسوة بشكل جماعي وتسمى المغنية “الشيخة”، في حين ينفي البعض أن يرتبط هذا النمط الفني بالسيدات فقط لأن تاريخه يثبت تأديته من قبل الرجال كذلك.
العيطة في مواجهة الاستعمار
ارتبط فن ” العيطة” بحقبة الاستعمار الفرنسي للمغرب بين 1912 و1956، حيث كانت كلمات العيطة التي ينشدها أصحابها تحفّز المقاومين وتحثّهم على مواجهة المستعمر. وتتغنى العيطة ببعض المقاومين حيث استعملت كأداة تواصل معهم تحتوي رسائل مشفرة لتضليل العدو.
ابتكار طريقة العيطة لتضليل المستعمر أزعج قادة الجيش الفرنسي فحاولوا منع تأدية بعض الأغاني واعتبروها تحريضًا عليهم بالنظر إلى وقعها على المقاومة.
الاستعمار الفرنسي اعتمد أسلوبًا آخر للتقليل من شأن العيطة عبر تشويه الشيخة واعتبارها من الفئات المتدنية في المجتمع وجعلها حكراً على أوكار الدعارة، إلى جانب أن الباشوات والقادة كانوا يتباهون بامتلاك الشيخات اللائي ينشدن العيطة.
ورغم محاولات التشويه والطمس، إلا أن العيطة قد تخلّصت من التهم والشوائب التي ألصقها بها المستعمر وبعض الخونة المتعاونين معه، وبقيت شاهدًا على أصوات جميلة لنساء القبائل المغربية وعلى مساهمتهن في معركة المقاومة.
فن شفوي يخشى الزوال
قد ينبهر المستمع للعيطة المغربية بكلماتها وإيقاعات أدائها وأسلوبها الفريد، لكنّه حتما سيبحث عن مراجع توثّق لهذا الفن العريق ليعرف عنه أكثر، إلا أن الآثار المكتوبة المتناولة لهذا المبحث غير متوفرة، وهنا تجتمع نقاط قوة هذا الفن ونقاط ضعفه.
نقطة القوة التي تميز العيطة تتمثل في قصائدها وكلماتها غير الثابتة والمتطورة و هي كلمات قابلة للارتجال والإضافة والنقصان، وهي تتميز بطابع تلقائي في إنشادها، كما أن البعد الشفوي الذي اتّسمت به يمنحها امتيازا على مستوى تناقلها بسهولة بين الأجيال، خاصة داخل القبائل في الأرياف، لكن في المقابل هذا الامتياز يحد من انتشار هذا الفن والترويج لنفسه، ويعود ذلك إلى محيطه الضيّق الذي نشأ فيه وهذه هي نقطة ضعفه التي تهدّد هذا النمط الغنائي بالانقراض لأن جهل أهله بآليات التوثيق وغياب سياسة خاصة من قبل أهل الثقافة في المغرب لتدوينه ووضعه في سجلاّت خاصة من أجل حفظه ومنح فرصة للأجيال اللاحقة للاطلاع عليه ضمان ديمومته.
كما يلقى اللوم في هذا الإطار على المشرفين على الثقافة في المغرب من أبناء الوسط الحضري، بسبب نظرتهم الدونية للفن البدوي، فقدغيّبوه عن المناهج التعليمية كما غاب عن وسائل الإعلام، فالبعض يعتبره فنًا ساقطا يعبّر على أهواء مجموعة قليلة من الناس، مثل المزارعين والرعاة، ومكان إنشاده لا يتعدى الملاهي أو الأعراس والحفلات الخاصة وفي إطار معيّن.
وحسب مختصين في التراث الغنائي المغربي، فإن جزءً مهما من ذاكرة العيطة قد تلاشى بسبب عدم اهتمام شباب العصر الحالي بهذه الأنماط وغياب ثقافة تمرير المشعل الفني بين الأجيال.
وفي خضم تأرجح فن العيطة بين إثبات نفسه و تلاشيه، يحاول بعض الفنّانين الشبّان في المغرب إحياء بعض القصائد القديمة وتوزيعها بشكل عصري يتماشى مع الأذواق الحالية التي لقيت رواجًا.
ثقافة
العيطة…فن مغربي في مواجهة الاستعمار


أضف تعليقا