سمية المرزوقي
وسط أكوام من الأغراض القديمة والثياب والشراشف المجمّعة داخل أكياس مختلفة الأحجام، تقضي السبعينية المتقاعدة حبيبة العطوي يومها بين خياطة بعض الأقمشة المهترئة ومتابعة المسلسلات التركية.
تُعرف حبيبة في حي سكنها الملاصق لحي الزهور بالعاصمة تونس، بأنّها زائرة وفية لسوق الأغراض القديمة في المنطقة، أين تقضي ساعات من التجوال لفرز الملابس والأقمشة، وكل ما يبدو صالحا للباس لأبنائها أو أحفادها، أو حتى لمجرّد وضعه في الخزانة إلى أن تحين ساعة الحاجة إليه.
ومع أنّ شهرتها لا تخفى عن الجيران والباعة في السوق، إلّا أنّ حبيبة خيّرت أن تتحدّث مع “بوابة تونس” باسم مستعار، فهي تخشى أيّ صدام جديد مع أبنائها.
“لا، لن أتخلّص من أغراضي… قد أحتاج إليها يوما”، هكذا برّرت حبيبة لـ”بوابة تونس” تمسّكها بكل الأغراض التي اكتسحت جميع الغرف بما فيها غرفتي المطبخ والحمام، وهي لا تبدي أيّ رغبة في بيعها أو التبرّع بها، رغم أنّ الجزء الأكبر من الأغراض بدا غير ذي قيمة.
بعد وفاة زوجها وزواج أبنائها، أطلقت حبيبة العنان لرغبتها الملحّة في تخزين الأغراض وتكويم الأكداس، حتى صار بيتها أشبه بمخزن أو مستودع للأشياء القديمة.
شيئا فشيئا، لم يعد في البيت مكان شاغر لاستقبال أبنائها أو ضيوفها، وصار كل من يرغب في زيارتها يستقبلها داخل بيته.
أصبحت حبيبة تشعر بحرج كبير وضغط نفسي متزايد، لشدة انتقادات أهلها وجيرانها للحالة التي صار عليها بيتها خلال بضع سنوات.
تركت أهلها في حيرة من أمرهم، فهم لا يجدون مكانا مرتّبا نظيفا يجلسون فيه عند زيارتها، ولا يستطيعون إقناعها بالتخلّي عن الأكداس المتراكمة. كما ترفض أيضا فكرة العلاج من الحالة التي تردّت فيها.
من وجهة نظر علمية، كثيرون في مثل حالة حبيبة قد لا يعلمون أنّهم يحملون أعراض الاكتناز القهري، وأنّه يتعيّن على المحيطين بها مساعدتها على العلاج بدل انتقادها وزيادة الضغط عليها طوال الوقت.
ما هو الاكتناز القهري
الاكتناز القهري -المعروف أيضا باسم اضطراب الاكتناز القهري- هو اضطراب يتميّز بميل المُصابين به إلى مراكمة الممتلكات بسبب الاستحواذ المفرط عليها أو صعوبة التخلّص منها، بغضّ النظر عن قيمتها الفعلية، ممّا يؤدّي إلى انعكاسات سلبية على توازن الشخصية والعلاقات العائلية والاجتماعية والمهنية.
قد يرتبط الاكتناز القهري بالاكتئاب أو الفصام أو اضطراب الوسواس القهري. وغالبا ما تثير محاولات التخلّص من الأشياء مشاعر قوية جدا يمكن أن تُسبّب الشعور بالإرهاق، لذلك غالبا ما يميل الشخص الذي يقوم بالاكتناز إلى تأجيل أو تجنّب اتّخاذ قرارات بشأن ما يمكن التخلّص منه.
وفي أحيان كثيرة، تكون العديد من الأشياء المحفوظة ذات قيمة نقدية قليلة أو معدومة، وقد تكون ما يعتبره معظم الناس قمامة.
يحتفظ الشخص بالأغراض لأسباب غير واضحة للآخرين، مثل الأسباب العاطفية أو الشعور بأنّ الأشياء تبدو جميلة أو مفيدة. فمعظم المصابين باضطراب الاكتناز لديهم ارتباط عاطفي قويّ جدا بالأشياء.
وفي حديثها عن محنتها لا تخفي حبيبة حيرتها، قائلة: “لا أستطيع فعل شيء، ولا يمكنني التفريط في أشيائي. أنا غير قادرة على تنظيم أغراضي ولا أقوى على ترتيب بيتي في هذه السنّ. ولا أريد التفكير تماما في أن أتخلّص من كلّ شيء”.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه الكثيرون أنّ كل هذه الأعراض، هي مجرّد توصيف لحالة من الكسل والميل إلى الفوضى، يؤكّد العلم أنّ الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، لأنّنا بصدد الحديث عن مرض يستوجب علاجا وإحاطة للمُصابين به.
الاكتناز القهري اضطراب عقلي
منذ سنة 2012، اعترفت منظّمة الصحة العالمية باضطراب الاكتناز القهري مرضًا، وأدرجته ضمن أصناف الاضطرابات العقلية. وتُقدَّر معدّلات انتشار هذا المرض بنسبة 2% إلى 5% لدى البالغين.
ترى الجمعية الدولية لعلم النفس أنّ اضطراب الاكتناز يبدو جليا على المرضى عندما يكونون في الخمسينيات من العمر، لكن بداية ظهور الأعراض تكون قبل ذلك بكثير خلال فترة المراهقة.
وعادة ما يتمّ الإبلاغ عن تفاقم تدريجي للأعراض على مدار كل عقد من العمر، لاسيما عند اختفاء الأشخاص الذين يساعدون في السيطرة والتحكّم في الفوضى أو موتهم، مثل ما حدث مع حبيبة التي تفاقمت حالتها بمجرّد وفاة زوجها.
الاكتناز القهري لا يشمل فوضى تجميع الأغراض القديمة فحسب، بل تحدّث الأخصائيون أيضا عن اكتناز الحيوانات الذي يعدّ مظهرا خاصّا من الاكتناز القهري.
وتعرّف الجمعية الكندية للأطباء البياطرة، مكتنز الحيوانات بأنّه الشخص الذي يجمع عددا كبيرا من الحيوانات، ويفشل في توفير الحدّ الأدنى من معايير التغذية والصرف الصحي والرعاية البيطرية لها حتى توشك على الوصول إلى الموت. وغالبا ما يكون المصاب بهذا الاضطراب غير مدرك للآثار السلبية لذلك، على صحّته ورفاهيته هو نفسه وعلى أفراد الأسرة الآخرين.
العلاج السلوكي المعرفي
ومع أنّ العيش وسط الفوضى سلوك آخذ في الازدياد في تونس -وفق عدة شهادات- فإنّ الاحصاءات أو التصنيفات الخاصّة بهذا المرض في تونس ما تزال غير واضحة. في حين على المستوى العالمي بيّنت الدراسات أن نحو 5% فقط من الأشخاص الذين يعانون من سلوكيات الاكتناز يتلقّون المساعدة، لكن التدخّل لمساعدتهم يرتكز على إزالة فوضى الأغراض المكدّسة بدل علاج الاضطراب وأعراضه.
لذلك تشير هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية مثلا، إلى أنّ العلاج السلوكي المعرفي هو العلاج الرئيسي لاضطراب الاكتناز، لأنّ المعالج سيساعد الشخص المصاب على فهم أسباب صعوبة التخلّص من الأشياء وتراكم الفوضى.
كما ثبت أيضا أنّ الأدوية المضادة للاكتئاب التي تسمى مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية، تساعد بعض الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الاكتناز.