تُواصل أيام قرطاج المسرحية في دورتها الـ23 عبر مسرحياتها العربية المُتنافسة ضمن المسابقة الرسمية، أو تلك المشاركة ضمن العروض الموازية، طرح الراهن العربي الحارق برؤى فرجويّة تبحث في بديل جمالي للعنف والحرب والاغتراب في أوطان أرهقتها التجاذبات السياسية والطروحات الأيديولوجية، فاستعاذت بالحب ملاذا وسلوى، علّها تنجلي.
الحب في مواجهة الأيديولوجيا
ضمن هذا التوجّه، قدّم العرض اللبناني “كوكتيل شقف بلا معنى” أسئلة وجودية وهموم إنسانية على خشبة حائرة وثائرة في الآن ذاته.
بدا عرض المخرجة اللبنانية جنى أبو مطر كأنّه شظايا مفكّكة تبحث عن الصورة المكتملة، كما ظهرت الشخصيات فيه تائهة تبحث عن معنى الوجود والكينونة.
وتدور فصول المسرحية حول ثلاث شخصيات تدفعهم المدينة إلى الهرب منها، ولكنّها في الآن نفسه تشدّهم إليها.
وبين التمزّق والبقاء والرحيل، يخوض أبطال العمل صراعات وتناقضات ما بين التواصل والانفصال، الحب والكره، الاختفاء والظهور.
تندفع التساؤلات من أفواه الممثّلين والممثّلات عن منزلة الحب في مدينة تعيش انهيارا اقتصاديا وخرابا خلّفهما انفجار مرفإ بيروت في الرابع من أوت/أغسطس 2020، مؤكّدة أنّ قصص الحب تظلّ، دائما، أشرف من الأيديولوجيا، وأسمى من التجاذبات السياسية، وأرقى من الغوغائيات الطائفية.
وأمام ما تعيشه الشخصيات من نجاح وفشل في تحديد الخيارات والرغبات، يستدعي العرض ضرورة أن يكون الممثّلون مرئيين أمام أنفسهم وجمهورهم بإنقاذ أنفسهم من انهيار المدينة من حولهم، وبالمساهمة في صنع التاريخ الذي يكتب فوقهم باستمرار.
في مواجهة عبثيّة السياسة، يسعى أبطال العرض إلى خلق لحظات مكثّفة وعميقة ورنّانة في المكان والزمان على خشبة المسرح. وفي المقابل يناضلون ضدّ ربط أيّ معنى وأيّ وهم بسردية الواقع السائد في الجانب المظلم من العالم.
“كوكتيل شقف بلا معنى”، يتساءل عمّا إذا كان بإمكاننا الوجود خارج المعنى، وعمّا إذا كان بإمكاننا الوجود خارج الحب؟
“لغم أرضي”… بارانويا الخوف
رجل وامرأة وسط دائرة محكمة الغلق مرسومة حدودها بالطباشير، كلّما بهت اللون أعاد الرجل تسطيره حتى لا يتجاوزا مدار الدائرة الضيّقة خوفا من انفجار اللغم خارجها.
هكذا وقفت أميرة حبش وغسان أشقر، بطلا المسرحية الفلسطينية “لغم أرضي” عن نصّ لإيلي كمال وإخراج جورج إبراهيم، في اللّامكان واللّازمان وسط دائرة الخوف التي تتّسع كلما مرّ الوقت عليهما، يقتلان الوقت بالثرثرة أو الهذيان، هو كذلك لأنّهما لم يتحدّثا في موضوع معيّن أو حكاية واضحة المعالم، يطرحان أسئلة تبدو بسيطة في الظاهر لكنّها في الحقيقة كثيرة التعقيد، لها أكثر من جواب مفتوح على عدّة احتمالات، المعنى ونقيضه فوق لغم قابل للانفجار في أيّ لحظة ومع أيّ حركة.
هما حبيسا مكان وذاكرة في دائرة الخوف اللّا معلن “هل من معنى لما نعيشه اليوم؟”، سؤال يُطرح ويبقى معلّقا دون جواب كغيره، فهل يقتصر الخوف على انفجار اللغم أم هو الخوف من تحديد المفاهيم والوقوف على واقع الأشياء؟
الحب، الكره، الشجاعة، الخوف، الموت، الأنوثة، الرجولة، المساواة، الديمقراطية… كلّها ثيمات حام حولها الحوار أو هذيان تقطيع الوقت بالثرثرة، فهل كان احتمال انفجار اللغم مبعث الخوف الوحيد في تلك الدائرة الخانقة، أم هو الخوف من كلّ ما هو كامن في قاع الذات الإنسانية من انكسارات نخشى مواجهتها؟
التناقض والتردّد كانا سمة الحوار المسترسل بينهما على مدار الساعة، والذي لا تقطعه سوى محاولات فاشلة لتجاوز الدائرة والنجاة، فشل محكوم ببارانويا الخوف ولا شيء غيره.
“لغم أرضي” لا يروي تعطّش المُشاهد للوقوف على حقيقة بعينها، وهي غائبة لا محالة في ظلّ العبث الذي تعيشه الشخصيتان بشكل يومي أو الحصار المفروض عليهما… “الخوف” غول يسكن الجسد ويتمكّن منه ويُشلّ حركته، رُسمت حدوده بالطباشير القابل للمحو بمجرّد المشي فوقه تكفي خطوة واحدة لتجاوزه.
شيئا فشيئا تتكشّف الحقائق في العرض ليُدرك المُشاهد أنّ اللغم المقصود هنا لا يوجد تحت الأرض فحسب، بل الجميع يُكابدون ألغاما نفسية قابلة للانفجار في أيّ لحظة.
يفتح الزوج صفحات كتاب يحمله منذ بداية العرض ويتّضح أنّه مذكّرات، وتحت دائرة الضوء يقرأ صفحة منه عن آخر لقاء له بوالده الراحل، ثم يعود الضوء إلى الخشبة ليتحوّل المقعد (الذي مثّل الديكور الوحيد في العرض) إلى قبر كتُب على شاهدته ندى سليمان، الزوجة التي غابت وبقي الزوج حبيس ذاكرة جمعت كل التفاصيل والملامح.
فما كانت الدائرة التي رسم حدودها سوى عزلة غرق في بحرها، ولم يوقظه منها سوى دويّ الانفجار الذي انطلق به العرض.
“أناركيا”… صراع مع الذات والمحيط
عن الغربة والاغتراب داخل حدود الوطن الأم، تطرح المسرحية الكويتية “أناركيا” عن نصّ لفاطمة العامر وإخراج لمحمد الأنصاري، قصّة شيخ وحيد يعيش منعزلا في بناية مهجورة لا تؤنس وحدته سوى مجموعة القطط التي اعتاد إطعامها يوميا، في البناية متداعية كذاكرته التي زحف عليها الزهايمر.
يعيش الشيخ صراعات نفسية وتراكمات اجتماعية، يرفض الخروج من بيته ومن وطنه رغم العزلة المقيتة والوحدة القاتلة. وخلال هذا الروتين اليومي يحاول العجوز استرجاع ذاكرته التي تسلّل إليها المرض اللعين.
عجوز منعزل ومحبوس في العتمة ينتظر أملا لا يأتي لترميم ذاكرته وشيئا من روحه، ليُبقي على عالمه متماسكا فيما كلّ شيء آيل للانهيار.
هناك يستحضر صورة ابنه الشاب الذي هاجر إلى أوروبا حاملا شهادة الهندسة آملا في حياة أفضل، وابنته التي أُجبرت على الزواج من صاحب مطعم حوّلها إلى راقصة، وأخرى فرّت من جحيم العائلة لتتوه في ليالي المدينة الموحشة، وابن منحرف امتهن السرقة وتسلّح بالعنف ليقاوم ما يحدث في الخارج.
شخصياتهم تخرج من البناية المتداعية باعتبارهم مستأجرين بالشقة المجاورة يظهرون ويغيبون في مربّع فولاذي يتّسع ويضيق كذاكرة العجوز/الأب، الذي يعتمد دفترا صغيرا يسجّل على صفحاته تفاصيل يخشى نسيانها، لاسيما موعد إطعام القطط التي تشكّل العامل الوحيد الثابت في حياته والمؤشّر على وجوده حيّا.
“أناركيا” التي تحوم حول عزلة الكائن وصراعه مع الذاكرة، تبسط من خلال الشخوص المحيطة بالشخصية الرئيسية (العجوز)، جانبا من الراهن المعيشي اليوم، حيث الجميع يبحثون عن مرسى لذاكرته المعطوبة، ويهربون في اتّجاه العدم ليتخلّص من التشوّهات التي طالت روحه في صراعه من أجل البقاء.
في “أناركيا” تنقسم الشخوص إلى قسمين: قسم ميّت مع وقف التنفيذ ويمثّله العجوز، وقسم هارب من واقعه راميا بنفسه في مطحنة الصراع ويمثّله الأبناء.
قسمان يشتركان في العتمة وخواء الروح، الأول تهرب منه ذاكرته ويحاول ترميمها، والثاني هارب من ذاكرته في اتّجاه الخراب.
وكلاهما في مربّع فولاذي ما إن يتسّع حتى يضيق مرة أخرى ليستمرّ الصراع مع الذات والمحيط، حيث لا أحد ينجو في النهاية من “الزهايمر” إمّا مجبرا… وإمّا مجبرا.