عرب

العامرية…. جريمة تأبى النسيان والسقوط من الذاكرة

قبل ثلاث سنوات نشر الناشط السياسي التونسي رضوان عيادي، مقالا وثق فيه زيارته لملجأ العامرية في بغداد، جاعلا من مشاهداته لأطلال المكان بعد سنوات من جريمة القصف الأمريكي الذي استهدفته سنة 1991، شهادة إنسانية على بشاعة ما يرتكب باسم الشرعية الدولية ومجلس الأمن.

طيف الشهداء

بين ركام الدمار الذي ظل لسنوات عديدة شاهدا على جريمة حرب مع سبق الإصرار والترصّد، استهدفت ما يزيد عن 400 من المدنيّين أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، لم يستطع رضوان أن يقاوم دمعة قهر وعجز غلبته على أمره، وهو يتخيل للحظة فظاعة المشهد الذي امتزجت فيه صرخات الرعب وتأوهات المصابين، وأنفاس الضحايا التي كتمت دفعة واحدة تحت وقع قنبلتين خارقتين للدروع أسقطهما طيار أمريكي على ملجأ مدني برسم الدفاع عن الحرية والديمقراطية.

بعد أكثر من ثلاثين سنة ورغم ما شهده العراق من تحوّلات ومتغيرات وخطوب عصفت به منذ العام 2003، إلا أنّ بصمة الإرهاب الأمريكي ما تزال قائمة بين أركان الملجأ الذي تحوّلت أطلاله إلى متحف يوثق الجريمة، تشهد عليها صور الضحايا والشهداء التي ظلت تسائل الزائرين والتاريخ في صمت مرعب “بأي ذنب استحل جورج بوش الأب دمائهم”.

يستحضر رضوان بين زخم ذكريات الزيارة المشحونة بالألم، وقوفه أمام شواهد المكان المفعم بالدمار وآثار الدماء وبعض الأشلاء المتفحمة وصور الشهداء، حيث يطالعه طيف الكثير منهم في لحظاتهم الأخيرة، قبل أن تخرق القنبلة الحارقة سقف الملجأ الذي احتموا به فرارا من قصف التحالف الدولي لعاصمة الرشيد خلال عملية عاصفة الصحراء.

“بمجرّد الدخول إلى الملجأ تكاد تراهم وكأنّ أطيافهم لا تزال في نفس الأمكنة، وكأنّها ترفض أن تغادرها غصبا، أشلاء مطبوعة على الحيطان والسقف وفوق الأرضية، ولو تمعّنت جيّدا لميّزت أعمارهم وأجناسهم وحتى فحوى أحاديثهم، هناك أطفال يملؤون المكان حركية، مرّة بألعابهم وأخرى بشجارهم، وهناك فتيات تتغامزن على إحداهن وهي تنتظر نهاية الغارة حتى تتمكن من معرفة اسم ذلك الشاب الخجول في الركن رقم تسعة الذي كان يحاصرها بعينيه كلما تحرّكت وأينما ذهبت، وعلى الجانب المظلم من تلك الزاوية يد تسري سريان النار تتلقفها يد مرتعشة تقتنص لمسة حنان في غفلة من أمّها بعد أن منعتهما الغارات من اللقاء وهما اللذان تعوّدا على السير صباحا جنبا الى جنب في طريق الذهاب والعودة من المدرسة”.

جريمة لا تسقط بالتقادم

عندما تتحدّث إحدى شاهدات العيان التي قدّر لها النجاة، عن تفاصيل مذبحة العامرية التي فقدت خلالها عددا من أفراد عائلتها في لحظة فارقة من الزمن، يهتزّ تماسكك الذاتي أمام هول المصيبة وبشاعة المشهد الذي تعجز المخيلة عن استيعابه أو تخيله.

ما تزال آثار الصواريخ التي اخترقت سقف الملجأ ماثلة للعيان، تستعيد لحظات الموت الفاجعة بكل مرارتها، وتقابلها تساؤلات مئات من عوائل الضحايا والشهداء الذين ما فتئوا يحيون ذكرى أحبّتهم ويوقدون الشموع استذكارا لهم، عن عدالة مفقودة تنصف الضحايا وتدين جريمة حرب قذرة لا تبرّرها ادّعاءات جنرالات الجيش الأمريكي وتبريراتهم، لتظل العامرية حلقة ضمن سلسلة طويلة من جرائم الحرب التي نفّذها دعاة “الحرية والعدالة الدولية” على أرض الرافدين منذ عاصفة الصحراء وحتى الغزو العسكري سنة 2003 والتي جسّدت عنوانا صارخا لعدم محاسبة المنفّذين، وإفلات الجناة من العقاب.