ضمن تظاهرة “شارع… ركح… شاشة” -التي نظّمها مركز الفنون الدرامية والركحية بمدنين (جنوب شرق تونس)، أخيرا، في فضاء “سينما مسرح الريو” بالعاصمة تونس- تابع أحباء السينما العرض الأول للفيلم الوثائقي “الطوايف… جريدة البادية”، من إخراج سماح الماجري.
والوثائقي يُسافر بالمُشاهد في عالم “طوايف” غبنتن في الجنوب الشرقي التونسي، تحديدا في منطقة القصبة من ولاية مدنين، حيث تستقرّ المجموعات الموسيقية المعروفة بـ”الطوايف”، التي توارثت الموسيقى وقيادة المجموعة عبر طائفتي التومي والخف.
وفي الفيلم، يكتشف المُتابع العالم الداخلي لهذه المجموعات، والخيط الذي ينظّم عالمها.
رمزية الإيقاع والرقصات
يُرافق الفيلم في 35 دقيقة، هذه المجموعات في حياتها اليومية وفي الأعراس، وذلك عبر بعض الشهادات الحيّة أين يكتشف المُشاهد تاريخها ودورها في الحركة الوطنية، لاسيما دور الشاعر الشعبي الفيتوري تليش، الذي كان مقرّبا من الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة.
ويقول شهود عيان عن نشأة هذه الفرقة أو الفرق، إنّها ظهرت في عام 1948 بالشكل المنظّم الحالي، “أما قبل هذا التاريخ فقد كانت العناصر عبارة عن مجموعات منفردة من الشعراء”.
كما يسلّط الشريط الضوء أيضا على زمن تأسيس هذه الطوائف، والدور الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي أدّته وما تزال تؤدّيه. وفي تقديمها شهادات المستجوبين، لا تغفل مخرجته بين الفينة والأخرى إبراز دلالات الحركات والإيقاع، فالطبل كان قديما وسيلة إنذار لقدوم الغزاة من القبائل العدوّة، أما العصا أو كما تُسمّى في الجنوب “العقفة”، فترمز إلى السلاح كما ترمز إلى الثقة بالنفس والتحدّي.
ويكشف الفيلم أيضا رمزية الرقصات التي تؤدّيها مجموعات غبنتن بملابسها البيضاء و”الفولارة” الحمراء. كما يقدّم أستاذ الإيقاع الفنان إبراهيم البهلول معلومات عن الخصائص الفنيّة لفرق غبنتن وآلة “الشنة” التي تستعملها. فيما قدّم الباحث في التاريخ المعاصر محمد ذويب، معطيات عن الجذور التاريخية لغبنتن وأصولهم وامتدادهم الجغرافي.
جريدة شفوية عن الناس والحياة
عن دلالة عبارة “جريدة البادية” الملحقة بالعنوان الأصلي “الطوايف”، يقول عبدالعزيز لغزال، أحد أصيلي المنطقة”: “تُحيل إلى ما تعنيه الجريدة من نقل للأخبار، لاسيما أنّ الطوايف كانوا على اتّصال بالسوق وبالتجّار، وكانوا يتابعون الشأن العام الداخلي والخارجي عن طريق المذياع في مقاهي مدنين القديمة”.
ويُضيف: “من ثمّة يحوّلون تلك الأخبار إلى أشعار وأغان تُلقى في الأعراس، فيستسيغها الحاضرون ويحفظون بعضها قصد نشرها على أوسع نطاق”.
ولم يغفل الوثائقي القصير، الحديث عن واقع مجموعات غبنتن اليوم، حيث تغيّر الزمن وأصبح حضورها مقتصرا على الأعراس فقط. كما بات حضورها في المهرجانات قليلا ونادرا، وهو ما تحدّث عنه رئيس طايفة التومي ونائب رئيس طايفة الخف، بكثير من المرارة والحزن.
وما يُحسب لفيلم “الطوايف… جريدة البادية” توثيقه ذاكرة في طريقها إلى الاندثار، خاصّة أنّ شباب غبنتن لا يُقبلون على تلقّي هذا الفن وحمل هذا التراث الموسيقي الذي توارثه أباؤهم.
وقد نجحت المخرجة الشابة سماح الماجري في رصد هذا التراث اللامادي وإبرازه للعموم، خاصّة أنّ هناك مساعيَ لتسجيله باعتبارها تراثا عالميا لا مادّيا.