حين أطل عماد الطرابلسي ابن أخ ليلى الطرابلسي في ماي/مايو 2017 على الشاشة للمرة الأولى بعد سنوات من السجن، بدت ملامحه مختلفة عن الصورة الأسطورية المفعمة بالغطرسة والقوة التي اشتهر بها في تونس سنوات قبل الثورة.
فقد الرجل كثيرا من وزنه فبدا أكثر نحافة بينما غزا الشيب شعره بالكامل، مقدما بانكسار اعتذارا من الشعب التونسي عن سنوات النهب والفساد حيث عاث فيها فسادا مسيطرا على مجالات شاسعة في الاقتصاد والتجارة، راكم فيه ثروة فلكية موزعة بين عشرات الأرصدة البنكية داخل تونس وخارجها.
كان مشهد عماد وهو يطلب المغفرة من ملايين التونسيين أملا في الحصول على عفو أو مصالحة مع الدولة تنهي معاناته وراء القضبان، يلخص مصير عائلة الطرابلسي أصهار الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، الذين تشردوا في أصقاع الأرض موزعين بين السجون والمنفى، والفرار المستمر من الملاحقات القضائية في الخارج.
نهب تونس
حلت لعنة الثورة التونسية على ما كان يسمى بالمافيا العائلية التي تغولت في البلاد باسطة نفوذها في جل شرايين الدولة والبلاد، فاقمت أشكال النهب المنظم والاحتكار والتهرب الضريبي والتهريب. أسرة تحولت إلى إمبراطورية مالية واقتصادية ضخمة في شتى القطاعات لم تتورع عن امتصاص دماء التونسيين وقوتهم.
تحول “الطرابلسية” وهو لقب العائلة الذي شمل أصدقائهم وأتباعهم، صار اسم الطرابلسية قرين النهب والتغول والغطرسة والدولة داخل الدولة. عرفوا بأنهم تحولوا إلى أباطرة للمال والأعمال في ظرف لم يتجاوز 10 سنوات، بفضل النفوذ السياسي المستمد من مكانة شقيقتهم ليلى زوجة الرئيس الأسبق بن علي، ما أتاح لهم جمع الثروات في ظرف وجيز منذ نهاية التسعينيات، ليبدؤوا بعدها منافسة سليم شيبوب صهر بن علي ومصالحه الاقتصادية الضخمة.
سيارات وطائرات وتلفزيون
وسع الطرابلسية نطاق نشاطهم ليشمل مختلف القطاعات من شركات السيارات والطيران والاستيراد والتصدير والتجارة والعقارات والسياحة، وصولا إلى الإنتاج التلفزيوني وقطاع الإعلام الذي اقتحمه عماد وعمه بلحسن بمشاريع مختلفة.
جعلت هذه الاستثمارات الضخمة من “الطرابلسية” بمثابة أخطبوط متعدد الأذرع والوجوه، أحكموا قبضتهم على مفاصل القطاعات الحيوية الاقتصادية في البلاد، كما تمكنوا من احتكارها بشكل مطلق بعد إزاحة جل المنافسين من السوق .
السقوط
أفراد عائلة الطرابلسي ينحدرون من عائلة متواضعة تحولوا إلى نجوم للمجتمع المخملي والأوساط البورجوازية الأشد ثراء في البلاد، وأصبحت سهراتهم ومغامراتهم الليلية وترفهم الأسطوري وإنفاقهم الخيالي محل أحاديث الجلسات الخاصة والعامة، كما تسربت أصداؤها إلى المنتديات الافتراضية وصفحات التواصل الاجتماعي في بداية انتشارها.
تحول الطرابلسية إلى رمز للسرقات وفساد المنظومة التي أمعنت في تفقير التونسيين واضطهادهم، لكن سرعان ما انفض شمل هذه المافيا العائلية، عشية الثورة على وقع صرخات المتظاهرين بشارع الحبيب بورقيبة لتتهاوى أقطابهم الواحد تلو الآخر كأحجار الدومينو.
هي “عدالة الثورة” كما يصفها شباب عايشوا ما انتهى إليه افراد العائلة من سجون وفرار بالخارج من الملاحقات القضائية.
المهرب
فعماد الطرابلسي الذي ألقي القبض عليه عشية 14 جانفي/يناير، بعد دخوله قاعة المغادرة بمطار تونس قرطاج مع أفراد آخرين من العائلة، يقضى اليوم أحكاما مطولة بالسجن في قضايا متعددة، بينما ما يزال الحسم في ملف المصالحة الذي تقدم به عبر هيئة الحقيقة والكرامة معلقا، والذي يفترض أن يدفع بموجبه للدولة تعويضات ضخمة قد تتجاوز عشرات الملايين من الدينارات مقابل العفو عنه.
عماد الذي اشتهر قبيل الثورة بتخصصه في التهريب عبر الموانئ البحرية، ذاع صيته خصوصا في مجال احتكار توريد الموز، أصبحت اقصى أمنياته كما ورد في إفادته لهيئة الحقيقة والكرامة “تربية ابنته الوحيدة التي كبرت في غيابه”.
العرّاب
حال بلحسن الطرابلسي “عراب الأسرة” كما يطلق عليه، لم يكن أحسن من ابن أخيه، فالرجل الذي نجح في الفرار على متن يخته الخاص صباح 14 جانفي/يناير 2011 باتجاه إيطاليا قبل أن يستقل الطائرة نحو مونتريال، أجبر على مغادرة كندا سرا سنة 2016 بعد رفض السلطات القضائية هناك طلبه للحصول على اللجوء الإنساني.
لم يترك بلحسن قطاعا اقتصاديا إلا و”اجتاحه”، من الاستيراد والتصدير إلى العقارات والسياحة والبيع بالتجزئة، وصولا إلى قطاع النقل الجوي حيث كانت شركة “كارتاغو” بمثابة الجوهرة على تاج استثماراته المتنوع.
كشفت تحقيقات رسمية عن كم الخسائر الفادحة التي تسببت فيها شركة “كارتاغو” لديوان الطيران المدني وشركة الخطوط التونسية، بسبب عدم خلاص بلحسن الطرابلسي طوال سنوات المستحقات المترتبة على شركته للجانبين طوال سنوات والمقدرة بملايين الدولارات.
انقطعت أخبار بلحسن بعد فراره من كندا على مدار 3 سنوات قبل أن تعلن السلطات الفرنسية عن إيقافه على أراضيها بتهمة تبييض الأموال، وهو يخوض حتى الآن صراعا قضائيا وقانونيا لوقف قرار تسليمه إلى الجهات التونسية.
حاكمة قرطاج
ينظر إلى ليلى الطرابلسي على أنها كبيرة العائلة و”حاكمة قرطاج” كما أطلق عليها الصحفي الفرنسي نيكولا بو، حولت سنوات حكم بن علي إلى مظلة للعائلة برمتها.
ما تزال ليلى الطرابلسي مقيمة حتى اليوم في جدة (بعد وفاة بن علي) صحبة ابنيها محمد زين العابدين ونسرين، التي تعرضت بحسب بعض المصادر لأزمات واضطرابات نفسية عقب طلاقها من صخر الماطري.
واجهت أرملة الرئيس الراحل أزمات مادية بعد سنوات من المنفى الإجباري بحسب بعض المصادر، نتيجة تتالي الأحكام القضائية بتجميد أرصدة بن علي بلبنان وسويسرا أو مصادرتها.
البعيدان عن الأضواء
عندما بدأت سلسلة محاكمات أفراد عائلة الطرابلسي الموقوفين في تونس، اكتشف التونسيون أسماء أخرى من العائلة لم تكن ضمن دائرة الضوء، لعل أبرزها الأخوان مراد ومنصف، اللذان أحاطا أنشطتهما المشبوهة وعملياتهما الاقتصادية بستار من السرية كشفت عنه التحقيقات الأمنية لاحقا.
جمعت نهاية واحدة الأخوين بعد أن اشتركا سابقا في البقاء في الظل، فبعد وفاة مراد سنة 2013 في السجن متأثرا بإصابته بورم في الدماغ، التحق به المنصف في أفريل/أبريل 2020 بعد معاناته من عدة أمراض مزمنة.
“المنسي”
بينما خيل للكثيرين أن صفحة الطرابلسية قد طويت بلا رجعة، فوجئ الرأي العام بخبر العثور على جثة محمد الناصر آخر اشقاء ليلى ووالد عماد في شهر جوان/يونيو الماضي.
عاش المنصف بعد مغادرته السجن إثر محاكمته في عدد من قضايا الفساد، وحيدا بشقته المتواضعة بضاحية الكرم وشبه منسي من الجميع ولم يقع التفطن لجثته إلا بعد مرور عدة أيام على الوفاة.