رأي

الضمير الفرنسي… وسجّلات العار

بقلم / فوزي الصدقاوي

الاعتراف بسجلاّت “العار” ثم الاعتذار عن تاريخ جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، هو ضرورة لتصالح الفرنسيين مع أنفسهم وتطهير ضميرهم الجمعي قبل أن يكون تلبية لمطلب  أجيال من الجزائريين، وما أعتبره ماكرون ”ريع الذاكرة” تعيش عليه الدولة الجزائرية، ليس في الحقيقة إلا أحد أوجه تاريخ الغدر بالثورة الفرنسية وحرف قيمها الإنسانية، وإن كان بدا لماكرون أنّها ذاكرة تدر  اليوم  ريعا سياسيا على الجزائريين، فلأنّ الفرنسيين ”أمعنوا” في التوحّش تحت ”ألوية تمدين الأغيار”  . وطالما  مايزال ”المخزن الفرنسي” يفاخر بتاريخ “التوحّش” ورموزه،  فسيتحوّل لا محالة لدى الجزائريين إلى ”ريع أبدي”. وستظلّ تلك الذاكرة سجلاّت للعار  تؤرّق ضمير الفرنسيين الأحرار وسيكون التطهّر من أدرانها بمثابة استئصال جسد الثقافة المركزية الأوروبية عن جسد الثقافة الكونية لقيم الثورة الفرنسية.

وهي ذاكرة متوحّشة تهدد وحدة الفرنسيين الوطنية أكثر مما تثير آلاما مزمنة في حياة الجزائريين، فتلك الذاكرة رسمت معالم طريق الجزائريين وأرست فقه إدارته نحو المستقبل.  وحوّلت الأوشام السادية القبيحة في جسد ذاكرة الجزائريين الجماعية، ثقافة شرف راسخة، تؤسس لروح الصمود والتصدي و خزّانُ ممانعة لفلسطين ”ظالمة أو مظلومة”. 

كتب الأديب الفرنسي فيكتور هيقو (Victor Hugo) في سنة 1841 عن مهمة الفرنسيين  في الجزائر قائلا (هو شعب نيّر  وجد شعبا في الظلام)، ولاحقا سخّرت فرنسا في سنة 1916 الطب النفسي الاستعماري لخدمة النظريات العرقية فأسس الأستاذ المبرّز في الطب النفسي والعصبي بكلية الطب أنتوان بورتو  (Antoine Porto مدرسة الجزائر للطب النفسي، اشتغل فيها الأطباء النفسيون خلال نصف قرن على النظرية “البدائية” (Primitive) واضعين الأهالي الأصليين لشمال إفريقيا في منتصف الطريق بين الإنسان البدائي و الإنسان الغربي المتطوّر.

بمثل هذه الرؤية شرعت فرنسا ”للتطهير” بمعنى الإبادة، واستئصال ”الأهالي الأصليينles indigènes-” من أراضيهم  لإعمارها بالمعمّرين (les colons) في معنى الاستعمار، وأوكلت لنفسها مهمة محاربة ”البربرية” في معنى التنوير وتمدين “المتوحشين” في معنى ”التسويق” وبهدف توسيع دائرة مجتمع المستهلكين.

وانتهجت الجيوش الفرنسية مع احتلالها الجزائر  سنة 1830 ”سياسة الأرض المحروقة” (enfumades) التي اشتهر (الجنرال بوجو Général Bugeaud) فيها بالقتل الجماعي للرجال والنساء والأطفال وإضرام النيران في المحاصيل  والغابات وحرق البيوت والمساكن بمن فيها وإبادة قرى بكاملها وتهجير ما جاورها. وكان الجنرال ”بوجو ” يستمتع بشرح رؤيته لجنوده في الميدان: (الهدف ليس الركض وراء العرب، وهو أمر غير ضروري على الإطلاق.  منع العرب من البذر  والحصاد والرعي …. من الاستمتاع بحقولهم …كل عام، اذهب واحرق محاصيلهم.. أو  أبدهم حتى النهاية) . وقد أطلق المؤرخون على قادة الجيوش الذين مارسوا هذه السياسة تسمية “المدخنين”_(les fumeurs)  وكان الجنرال بوجو Général Bugeaud)) قد دافع عن هذه السياسة مبررا إيّاها بقوله : (وأنا أعتبر أن احترام القواعد الإنسانية سيؤدي إلى خطر  استمرار  الحرب في إفريقيا إلى أجل غير مسمى). 

وفي تقرير أدان ألكسي دو توكفيل(  Alexis de Tocqueville) طريقة خوض الجيوش الفرنسية معاركها ضد الجزائريين مؤكّدا أنّها (جلبت من إفريقيا معنى الظلم لأنه في هذه الآونة نحن نشن حربا بطريقة أكثر بربرية من العرب أنفسهم).  وفي جوان 1845 حين لجأت قبيلة أولاد رياح التي تضم رجالا ونساء وأطفالا مع قطعان الأغنام إلى كهوفهم، وكانت الفرق العسكرية الفرنسية تطاردها، وعند وصول الطابور الفرنسي، فُرض على القبيلة حصار  وهي وسط الكهف، (يتابع الراوي) : و“في نهاية صبرنا” في مواجهة “التعصب الوحشي لهؤلاء الأشخاص التعساء” الذين طالبوا الجيش الفرنسي بالابتعاد من أجل الخروج تم إطلاق النار في الساحات عند المداخل.. خمسمائة ضحية، أما التقرير الرسمي فيحصي حوالي ألف ضحية.  وجاء في رسالة أحد الجنود إلى أحد أصدقائه في فرنسا سنة 1845: (هذه هي الطريقة المثلى التي نحارب بها هؤلاء العرب.. قتل جميع الرجال من سن الخامسة عشرة فما فوق. الاستيلاء على جميع الناس والأطفال ونفيهم إلى ”جزر المركيز” أو أي مكان آخر. وباختصار القضاء على كل من لا ينحني كالكلب تحت أقدامنا). كما جاء في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية في نوفمبر 1833: ( لقد اعتدينا على حرمات المساجد والمقابر  والمنازل والأماكن المقدسة عند المسلمين. قتلنا رجالاً يحملون رخص المرور التي أعطيناهم إياها. كما أننا ذبحنا كثيراً من الجزائريين لشبهة عارضة، وأبدنا قبائل بأكملها تبين بعد أنها بريئة )

و يعترف الكونت ديريسون هو الأخر في كتابه” مطاردة الإنسان”   فيقول ” إننا والحق يقال أتينا ببرميل مملوء   آذانا ضممناها أزواجا من الأسرى…” ، ويؤكد ديريسون أنه في أيام احتلال بلاد القبائل سنة 1857 كان قادة الاحتلال الفرنسي يشجعون الجنود ويعطونهم 10 فرنكات عن كل زوج من آذان الأهالي التي يحاصرونها …! 

إن كان ثقل على ماكرون الاعتذار بالنيابة عن فرنسا وشعبها ولم يثقل عليه توظيفها في حملته الانتخابية المبكرة، فهل يستخف بذاكرة الجزائريين وقد تفنن المستعمرون في رسم أوشام الاضطهاد على جسد ذاكرتهم ؟ وهل ينسى الجزائريون بعد ستين عاما من التحرير ما خلّدته 131 عاما من فظاعات الجنود الفرنسيين، ما تزال المتاحف الفرنسية نفسها تشهد بما تحتفظ به من  جماجم للمقاومين، لقد بدؤوا احتلالهم بوحشية وختموه بالوحشية ذاتها، لكن بوسائل ومناهج أكثر ”عقلانية” و”حداثة”.

 فقد شن الجيش الفرنسي على مدينة سطيف حملة عسكرية شرسة  يوم 8 ماي 1945،أباد فيها 45 ألف جزائري خلال أسبوع واحد، وكان ذلك بمناسبة إعلان الحلفاء انتصارهم على المحور في الحرب العالمية الثانية. وخلال الثورة استهدف الجيش الفرنسي مئات من قادة الثورة ونشطائها بالاغتيال ، وتم سنة 1957،اختطاف أكثر من 8000 نفر من أهالي جزائر العاصمة تعرّضوا للتعذيب حتى الموت ومنهم أكثر من ثلاثة آلاف جزائري قتلوا بعد تعذيبهم، بذريعة عدم وجود محلات شاغرة في السجون الفرنسية. كما قتل بعضهم الآخر بطريقة  جمبري بيجار أما في باريس فتم رمي مئات من الجزائريين في نهر السين (مجازر أكتوبر 1961 ) وأجريت تجارب نووية في الصحراء الجزائرية، قُتل بسببها آلاف الجزائريين واُصيب آخرون بالسرطان وأمراض أخرى خطيرة.

إن كان إيمانويل ماكرون يخشى مما قام به الأتراك ،بزعمه، من تزييف الحقائق بشأن كتابة تاريخ الجزائر، فلا يظنّ عاقل أنّه سيجد مشقة في إعادة كتابته من مصادر فرنسية خالصة ومن مذكرات نخب فرنسية وعسكرية ومدنية وشهاداتها ومن تقارير لجان التحقيق البرلمان الفرنسي .. فيكفي أن يطّلع.. سيكتشف الفظاعات.. وسيدرك أي عار  سيظل أبدا يلاحق ”المخزن الفرنسي” وحراسه.

المراجع

  • (enfumades) طريقة كان يعتمدها قادة الجيش الفرنسي ضد سكان الجزائر، وذلك باشعال الحراق في الغابات لتهجير سكان القرى وقتلهم، إضرام النيران في مداخل الكهوف حيث يلجأ سكان القرى لاحتماء بها،والنتيجة هو موت جميع الرجال والنساء والأطفال والدواب والأنعام.
  • Inpriollaud.N, La France Colonisatrice, Paris, Ed Levi-Massinger, 1983
  • o   [Annales Médico-Psychologiques, 1918, N° 9]
  • أنظر على سبيل المثال النشيد الوطني الفرنسي (نشيد الانطلاق) كلمات النشيد 
  • De Montagnac, Lettres D’un Soldat, Neuf Années De Campagne  En Afrique, Librairie Plon, Paris, 1885
  • جمبري بيجار، تسمية لطريقة القتل الذي مارسها الجيش الفرنسي ضد الجزائريين، فبعد تعذيب المعتقلين توضع أرجلهم في مكعّبات يصب فيها الإسمنت وتترك مثبتة فيها إلى أن تجف ثم يُحمل المعتقلون على الطائرات ويلقى بهم من الجو  في البحر .
  • Franck Laurent. Victor Hugo Face A La Conquête De L’Algérie. Maisonneuve et Lacrosse, 2001, Victor Hugo face à la conquête de l’Algérie, F. Laurent, 2-7068-1552-3. ‌hal-02293463‌
  • Œuvres inédites de Victor, Hugo. Choses vues, G.CHARPENTIER et Cie, Paris 1888.
  • Alexis de Tocqueville, Première lettre sur l’Algérie (23 juin 1837) , Lettre quasi-introuvable;

Transmise par Jean-Louis Benoît en juin 2013.

  • La conquête d’Alger, par Camille Rousset, E. Plon et Cie, imprimeurs-éditeurs, Paris, 1879.
  • De Montagnac, Lettres D’un Soldat, neuf années de campagne  en Afrique, Librairie Plon, Paris, 1885.
  • François Maspero, L’Honneur de Saint-Arnaud, édition seuil, 2012.