رأي

“الصين الناعمة” ملاذ “إفريقيا المنسيّة” 

محمد بشير ساسي

على مدار العقدين الماضيين، نجحت الصين في توطيد علاقاتها بإفريقيا وتمتينها، لتملأ الفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الغربي (الفرنسي – الأمريكي) ضمن مجال حيوي يضم أكبر تجمّع للدول النامية في العالم، يتميّز بأسواق متعطّشة للاستثمارات، ونمو سكاني الأسرع عالميّا، والثروات الهائلة، وحكومات مفتقرة لأدوات فرض الأمن والاستقرار وتحديث البنى التحتية وتوفير الخدمات الأساسية.
يضاف إلى ذلك الموقع الجغرافي للقارة السمراء الذي جعل منها ذات أهمية إستراتيجية خاصة؛ حيث تحتوي على مضايق مهمة ورئيسة في طرق الملاحة الدولية، وهي ثاني أكبر القارات مساحة وامتدادا جغرافيّا.

القوة الناعمة

فمنذ بداية الألفة الجديدة بدا واضحا أنّ الدّبلوماسية الصينية اتّخذت “وجها جديدا” بالمقارنة مما كانت عليه خلال حقبة ما قبل الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تغيّرت أولوياتها وتطوّرت توجّهاتها بشكل متسارع ومدروس بالانتقال من التركيز الكلي على عقيدة “صون الأمن القومي” نحو الانفتاح على مناخات متعدّدة المصالح أخرى تزاوج فيها بين الفاعلية في الشؤون الدولية والتنافسية العسكرية – الأمنية والجيوستراتجية والنجاعة الاقتصادية.
ضمن خططها لختم “بصمة مؤثرة” خدمة لمصالحها المتنوعة كأيّ قوة مسؤولة عن خارطة النظام العالمي الجديد، اعتمد “التنين الصيني” على حزمة “أخلاقية/اقتصادية/سياسية” تشكِّل في
 بعيدة عن القوة (SOFT POWER) مجموعها “القوة الناعمة”
الصلبة (القوة المسلّحة)، مثل الثقافة والقيم السياسية والعلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، والتي مكّنته من ربط شراكات غير مقيّدة بأجندة زمنية محدّدة محققة له من المنظور الإستراتيجي درجة عالية من الأهداف أهمّها في قمة “سلّم المصالح” التقارب مع القارة الإفريقية ودولها.
قبل الوقوف على آليات التعاطي الصيني مع القارة الإفريقية ضمن صناعة تطويع الجغرافيا السياسية والأمنية للرؤية الاقتصادية الصينية، سنحاول فهم المقصود بـ”القوة الناعمة” من وجهة نظر جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية وعميد سابق لمدرسة جون كينيدي الحكوميّة في جامعة هارفارد، الذي شكّلت مؤلفاته مصدرا رئيسيا لتطوير السياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
يعرّف ناي مبتكر مصطلحي “القوة الناعمة والقوة الذكية” بأنهما القدرة على الجذب، لا عن طريق الإرغام والقهر والتهديد العسكري والضغط الاقتصادي، ولا عن طريق دفع الرشاوى وتقديم الأموال لشراء التأييد والموالاة، بل عن طريق الجاذبية وجعل الآخرين يريدون ما تريد، وأن القوة أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على الاستمالة بالحجة، ولو أنّ ذلك جزء منها، بل إنّ القدرة على الجذب كثيرا ما تؤدي إلى الإذعان. وكذلك هي القدرة على تشكيل تصورات الآخرين وترجيحاتهم وخياراتهم وجداول أعمالهم، عبر التماهي مه الآخرين مثلًا أنّ جدول أعمالهم السياسي بعيد عن الواقع.
وبالتالي فإنّ القوة الناعمة هي قوة التعاون الطوعي؛ أي القدرة على تشكيل ما (COOPERATIVE POWER) يريدُه الآخرون، والتأثير فيهم نحو تحقيق أغراض الفاعل
وأهدافه، دون حدوث أيّ تهديد صريح أو مبادلة أو تقديم إثابة.

الخطوة الأولى

عندما رسمت بكين رؤيتها بداية من العام 2000 من أجل الانتقال إلى تجربة ناجحة ونقطة تحوّل بالنسبة إلى التنمية الاقتصادية العالمية، اعتمدت في مقاربتها الضخمة للشراكة مع القارة الإفريقية على ثلاثة مرتكزات، حدّدها ماثيو فيرتشن الباحث المقيم في مركز كارنيغي-تسينغوا للسياسة العالمية كالتالي:
– الالتزام بالتنمية هدفا وطنيّا
– تأكيد تطوير البنية التحتية
– التجريب والمرونة في السياسات السياسية
كانت أولى خطوات الصين لتقديم نفسها شريكا “حميدا ومؤثّرا” في تحسين الاقتصاد وبناء مستقبل مستدام في إفريقيا، تأسيس عقد المؤتمر (FOCAC) “منتدى التعاون الصيني الإفريقي” الوزاري الأول للتعاون بين الصين والدول الإفريقية بالعاصمة الصينية بكين في أكتوبر سنة 2000، وهو في الواقع يعدّ أحد البرامج والمبادرات والتجمعات التي أطلقتها بكين لتحقيق أهداف جيوسياسية في إطار تنافسها مع الولايات المتحدة لتحفيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجنوب العالمي، بما فيها إفريقيا، ومنها “مبادرة الحزام والطريق” (عام 2013) التي تضم 52 دولة إفريقية، وقد بلغ عدد الدول التي أبدت رغبتها في أن تكون جزءًا منها أكثر من 150 دولة من مختلف قارات العالم، و”مبادرة التنمية العالمية” (عام 2021)، التي تهدف إلى تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، إضافة إلى “مبادرة الحضارة العالمية” و”مبادرة الأمن العالمي” التي يندرج ضمنها “منتدى السلام والأمن الصيني الإفريقي”.
وحضر المنتدى حينها الرئيس الصيني في ذلك الوقت جيانغ زمينغ، ونائبه هو جنتاو ورئيس الوزراء زو رونغجي، بالإضافة إلى رؤساء أربع دول إفريقية، هي الجزائر، توغو، زامبيا وتنزانيا والأمين العام لمنظمة الاتحاد الإفريقي، إلى جانب 80 وزيرا للشؤون الخارجية والتجارة يمثّلون الصين و44 بلدا إفريقيا وممثّلين عن 17 منظمة دولية وإقليمية إفريقية، كما حضره أيضا رجال أعمال صينيون وأفارقة.
وتمحورت أشغال المؤتمر الوزاري الأول للمنتدى حول نقطتين أساسيتين، هما:
– المساهمة في إرساء نظام سياسي واقتصادي دولي جديد للقرن الحادي والعشرين.
– تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين وإفريقيا في إطار السياق الجديد.
واتّفق المؤتمرون على ضرورة إرساء نمط جديد من الشراكة بين الدول الأعضاء تقوم على الاستقرار والمساواة والمنافع المتبادلة، وتبنّى المؤتمر وثيقتين رسميّتين، هما “إعلان بكين” و”برنامج التعاون الصيني الإفريقي من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية”.

ملئ الفراغ

اليوم وبعد مرور ربع قرن ما تزال الدولة الآسيوية العظمى تواصل مساعيها من أجل تعزيز مكانتها وارتباطها باعتبارها قوة رئيسية بإفريقيا والتزامها طويل الأمد بتقديم الدعم المالي (50 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة) لتعزيز العلاقات الدّبلوماسية والعسكرية مع دول القارة السمراء وفق ما أُعلن عنه في الآونة الأخيرة خلال منتدى أعمال منتدى التعاون الصيني الإفريقي في بكين، والذي وصفته الخارجية الصينية بأنه “أكبر حدث دبلوماسي تستضيفه الصين في السنوات الأخيرة”.
بحضور زعماء نحو 50 دولة إفريقية، جاء خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ مختلفا، فقد دأبت الصين غالبا إلى التأكيد أنّ شراكاتها لا تستهدف “أيّ طرف ثالث”، في إشارة إلى الغرب نفسه -المستعمر أو الحليف التقليدي السابق لمعظم البلدان الأفريقية- لكن اطمئنان شي إلى رسوخ علاقات الصين الإفريقية وإلى تنامي قوة بلاده، وخصوصا تغيّر نظرة إفريقيا للغرب جعلته يصرّح بما كان سابقا يخفيه بمنطق الصبر الإستراتيجي وطول النفس الصيني المعهود.
وقد صرّح الزعيم الصيني بكلمات واضحة في إشارة إلى أحد أبرز أسباب التقارب الصيني الإفريقي: “بدءا من منتصف القرن العشرين، حاربت الصين والدول الإفريقية معا ضد الإمبريالية والاستعمار ويجب علينا أن نواصل طريق التحديث والنمو معا”.
عمليّا، باتت “الصين الناعمة” اليوم تتحدّث بلغة الأرقام والتنافس القوي مستفيدة من إخفاقات الغرب في المعقل التقليدي لنفوذه، بل إنّ القارة السمراء برأي مراقبين تغيّرت أيضا بما يخدم مصلحة الصين باعتبارها قوة كبرى ومعززة بكل عوامل التفوق تلك بعد أن استوعبت “درس عقود من الإهمال الغربي لها”.
فلا الديمقراطية تحقّقت، ولا التنمية الحقيقية على النمط الغربي طُبّقت. وبقيت البلدان الإفريقية في معظمها تراوح مكانها في مربعات الفقر والجهل والمرض والفساد والانقلابات العسكرية والديون التي تجاوزت تريليون دولار عام 2023 حسب تقرير البنك الإفريقي للتنمية.
وتعيد هذه الإخفاقات في القارة السمراء إلى الأذهان مواقف عديد القادة الأفارقة من الغرب ومراجعة مكاسب الارتباط به لعقود وجردها، ففي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، انتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد -وهو مقرّب من الغرب- تلك العلاقة غير المتوازنة وغير المثمرة، حين قال: “الكثير من ثروات الغرب تم بناؤها من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستعمار والاستغلال”.
كما قال القائد العسكري لغينيا (المستعمرة الفرنسية السابقة) مامادو دومبويا أيضا على المنبر نفسه: “لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال”، وفي كل ذلك إشارة إلى نهاية حقبة من “الوصاية.”

نفوذ متصاعد

هنا يطرح السؤال الأبرز نفسه: ماذا قدّمت الصين لإفريقيا كي تعزّز نفوذها القوي بهذا الشكل؟
ما من شك أنّ الدول الإفريقية وهي تنفصل شيئا فشيئا عن الولايات المتحدة وأوروبا، استقبلت الاستثمار الصيني بالترحيب نظرا إلى جاذبية نموذجه التنموي ولكون الصين حققت نجاحات كبيرة وسريعة ترغب الدول النامية في نسخ تجربتها.
ووفق هذا المنظور أصبحت هناك حاجة متبادلة بين قوة اقتصادية ضخمة تمتلك مخزونا نقديّا ضخما يناهز 3 تريليون دولار (3000 مليار دولار) في حاجة إلى أسواق واسعة لترويج منتوجاتها في قارة تضم احتياطات مهمة من الطاقة العالمية (نحو 9.4% من النفط، و8% من الغاز الطبيعي)، إضافة إلى أنّ إفريقيا هي القارة الأغنى باحتياطات المعادن المختلفة في العالم (80% من البلاتين ونحو 40% من الألماس، و20% من الذهب و20%من الكوبلات).
كما تمتلك القارة السمراء ثروة زراعية وحيوانية وسمكية ضخمة، وبجانب ثرواتها المعدنية والطبيعية، تشهد القارة الإفريقية معدّلات متسارعة للنمو السكاني، إذ من المتوقّع وصول عدد سكانها إلى 2.5 مليار نسمة بحلول عام 2050 يمثّلون نحو 40% من سكان العالم.
منذ تأسيس منتدى التعاون الصيني – الإفريقي عام 2000، ساعدت الشركات الصينية إفريقيا على بناء أكثر من 10 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية وتحديثها، وما يقرب من 100 ألف كيلومتر من الطرق، وما يقرب من 1000 جسر، و 100 ميناء، و66 ألف كيلومتر من خطوط نقل الطاقة وتحويلها، وسعة طاقة مركبة تبلغ 120 مليون كيلووات، و150 ألف كيلومتر من شبكة الاتصالات الأساسية، وخدمات الشبكة تغطي حوالي 700 مليون مستخدم.
ومع نهاية 2023، تجاوز رصيد الاستثمار المباشر للصين في إفريقيا 40 مليار دولار ، مما يجعلها واحدة من أهم مصادر الاستثمار الأجنبي في القارة، وفي السنوات الثلاث الماضية خلقت الشركات الصينية أكثر من 1.1 مليون فرصة عمل محلية.
وتغطي مناطق التعاون الاقتصادي والتجاري التي استثمرت فيها وبنتها مجالات الزراعة والمعالجة والتصنيع والتجارة والخدمات اللوجستية وغيرها من الصناعات، وجذب أكثر من ألف شركة إلى المنطقة، مما يقدّم مساهمات مهمة في زيادة عائدات الضرائب المحلية وكسب العملات الأجنبية من الصادرات.
وقد شهدت السنوات الأخيرة توسّعا في حجم التجارة بين الصين والقارة السمراء ونوعيّتها، حيث ارتفعت إلى 167 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من 2024، وفقًا لأحدث الأرقام الصادرة عن الإدارة العامة للجمارك الصينية. وبلغت الصادرات الصينية إلى دول هذه القارة خلال تلك الفترة 97 مليار دولار حسب ما أورد موقع أفريكا ريبورت، بينما سجّل المصدّرون الأفارقة مبيعات بقيمة 69 مليار دولار.
وتتمثّل الغالبية العظمى من الصادرات الإفريقية إلى الصين في شكل مواد خام، أو ما يسمّى السلع الوسيطة، والتي تمثّل 68% من إجمالي التجارة الثنائية، وقد ارتفعت بنسبة 6.4% على أساس سنوي خلال الأشهر السبعة الأولى من العام.
وتعتمد البلدان الإفريقية بشكل مفرط على بيع المواد الخام غير المعالجة إلى الصين بما يتوافق مع أنماط التجارة الراسخة بين الجانبين. ووفقا لبحث أجراه مركز سياسات التنمية العالمية بجامعة بوسطن، الفترة من 2000 إلى 2022، كان 89% من الصادرات الإفريقية إلى الصين عبارة عن موارد خام معظمها من النفط والنحاس وغير ذلك من الموارد المستخرجة.
ويقول موقع أفريكا ريبورت: “إذا استمرت وتيرة التجارة الحالية بين الصين وإفريقيا، فإنّ الجانبين يسيران على الطريق الصحيح لتجاوز العام الماضي وهو 282 مليار دولار من حجم التجارة الثنائية”. ووفق هذه المعطيات تتوقّع “وکالة ماکنزي الأمريكية” أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من إفريقيا بحلول 2025 إلى 440 مليار دولار.

تحدّيات كبرى

بصورة عامة حقّقت السياسة الخارجية الصينية في إفريقيا تقدّما كبيرا على المستوى “الجيو-اقتصادي” بعدما نجحت في ترويج نفسها بكونها نموذجا ومرجعية “أكثر فائدة لإفريقيا من الغرب”، نظرا إلى أنها تتشارك مع دولها “الخلفيات التاريخية المتشابهة، ونقاط انطلاق متماثلة، ومهمة مشتركة تتمثّل في ضرورة التحوّل السريع.
وتحصد بكين ثمار هذه الإستراتيجية سياسيا المحافل الدولية في سياق صراع دولي على النفوذ، وتجتذب البلدان الإفريقية أكثر إلى رؤيتها للعالم، فقد أقنعت من 50 دولة إفريقية في الأمم المتحدة بعدم الاعتراف بتايوان دولةً أو إلغاء الاعتراف بها، باستثناء دولة إسواتيني (سوازيلاند سابقا)، وهي واحدة من بين 13 دولة في العالم ما زالت تعترف بتايوان.
لكن رغم التطور الكبير في التعاون بين إفريقيا والصين في مختلف المجالات، تواجه بكين تحديات كبيرة متعلقة أساسا بإغراق الدول الإفريقية بالديون جراء مشاريع البنية التحتية الضخمة والباهظة الثمن وغير المكتملة أحيانا على حساب خلق الوظائف المحلية والمشاريع المنتجة. كما تواجه انتقادات تتعلق بفجوة العجز التجاري الكبير بينها وبين الدول الإفريقية وسياسات الإغراق بالسلع واستغلال الموارد الإفريقية، وعدم مراعاة الجوانب البيئية، وهذا التوجّه جعل الإعلام الغربي يصف أنشطة التنين الصيني في إفريقيا “بالشريرة”، إذ يسعى من ورائها إلى الحصول على الموارد الطبيعية والإضرار بجهود الأفارقة لتحسين الاقتصاد وبناء مستقبل مستدام بعيد عن الاضطرابات والهشاشة.