حادث أليم على هامش معركة التحرير وغياب الثورة التشريعية..قراءة اتّصالية للموقف الرسمي من فاجعة المزونة
عبدالسلام الزبيدي
قبل الخوض من مقاربة اتّصالية في “فاجعة” بل كارثة ومأساة المعهد الثانوي بالمزونة التي أودت بحياة ثلاثة تلاميذ كانوا في فترة العدّ التنازلي لإجراء امتحانات البكالوريا، من المهمّ أن نستحضر لحظة 25 جويلية 2021 والأسباب المعلنة لاتّخاذ إجراءات استثنائية من أجل إعادة السير العادي لدواليب الدولة. فالفصل الثمانون من دستور 2014 تحدّث عن الخطر الداهم الذي يتعذّر معه هذا السير العادي، وانتهى الأمر بنا إلى إلغاء الدستور ذاته والعمل على تكريس نظام جديد أُطلِق عليه إسم النظام القاعدي. فهل تمكّن الماسكون بالسلطة من تحقيق هذا الهدف المضمّن في دستوريْ 2014 و2022 وذلك في الفصل 80 و96 تواليا؟
ردًّا على سؤالٍ مفترض حول علاقة تلك اللحظة التي مرّ عليها أكثر من ثلاث سنوات ونصف وفاجعة المزونة، أُنْعِشُ ذاكرة القرّاء بأنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد جعل من زيارته في الليلة الفاصلة بين 24 و25 جويلية 2021 إلى ولاية قفصة ومنها معتمديتيْ المتلوي والرديف برهانا على تعطّل السير العادي لدواليب الدولة. كيف لا وهذا المستشفى أو ذاك يعاني انقطاعا في الماء (وهو أمر غير مقبول طبعا)؟ وقد كرّر سعيّد هذه “الحجّة” مرارا وتكرار لتبرير ما أتاه، دون أن ننسى زيارات أخرى كشفت بدورها عن “ثعبان في مستشفى” وغير ذلك.
والآن بعد مرور هذه السنوات، هل عادت دواليب الدولة إلى سيرها العادي بشكل يطمئن هذا التلميذ وهو متّكئ على حائط المعهد، ويجد فيه المريض كلّ ما يحتاجه في المستشفى؟ إن قلنا نعم فالواقع يكذِّبنا. وإنْ قلنا لا، نعود للسؤال الأوّل حول 25 جويلية وإعادة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي. وهو سؤال له شقّان: الأوّل حول المشروعية الدستورية والمسافات بين الأهداف المعلنة وغير المعلنة، والثاني يتعلّق بالنجاح أو الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة مع افتراض أنّ لتلك الإجراءات “مشروعية دستورية وسياسية”. يبدو أنّ فاجعة المزونة من ولاية سيدي بوزيد تعفينا من الاختيار بين النجاح والفشل، فالمشهد لا بحتاج توضيحا.
أسلوب سعيّد في التعاطي مع الأزمات
نجح رئيس الجمهورية قيس سعيّد في فترة ما قبل 25 جويلية 2021 في اقتناص كلّ الأخطاء الإجرائية والأحداث والحوادث ذات الدلالة السياسة والاجتماعية الهامّة منها ودون ذلك لإثبات فشل المنظومة التي أفرزته ووضعته في موضع رئيس الدولة. من ذلك أنّه ردّ مشروع قانون صادق عليه البرلمان لأنّه مؤرَّخٌ بموعد انطلاق الجلسة لا إنتهائها، وعندما تسلّم الحكم منفردًا أصلح 49 خطأً في نسخة مشروع دستور وهي معروضة على الاستفتاء، وعندما تمّ الإصدار سمّاه بتاريخ الاستفتاء لا بتاريخ الصدور كما هو معمول به. وأكثر من ذلك ردّ مراسلةً من رئاسة الحكومة (وهي مسألة نالت حظًّا من الصخب الإعلامي) بسبب خطإٍ في الظرف الخارجي للمراسلة.
والمقصد من هذين المثالين، ليس التذكير بالأخطاء وربّما التناقضات، وإنّما للتذكير بأنّ منهج رئيس الجمهورية قيس سعيّد في التعاطي مع من هم شركاؤه في الحكم اعتباره أنّ كلّ خطأ دليل على تعطّل دواليب الدولة وأنّ ذلك الفعل يرتقي إلى مرتبة الخطر الداهم. وعليه من المفترض أن يكون سبيله في التعاطي مع أحداث اليوم بذات منهج التعاطي مع أحداث الأمس. ومعلوم أنّه لو فصّلنا القول في ضرب أمثلة الماضي والحاضر لطال القول، والحال أنّنا سنقصره (القول) على زاوية الاتّصال السياسي.
رحم الله التلاميذ محمد أمين السعدي وعبدالقادر الذهبي ومحمد صالح الغانمي، أؤلئك الذي لم ينالوا في دنياهم ما ينبغي أن يحصلوا عليه من حقوق تضمّنها دستور كتبه صاحب القولة الشهيرة بأنّ الدستور الحقيقي مكتوب على الجدران، فها هو أحد الجدران يفعل فعله فيهم.
انتظر التونسيون ردًّا سريعا من السلطات المحليّة والجهوية والمركزية بما فيها وزارة التربية ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية لكنّ الظنَّ خاب. أصدرت رئيسة الحكومة سارة الزنزري بلاغا عن المخطّط الاستراتيجي للتنمية الذي جمعت له الوزراء الموصوفون في دستور 2022 بأنّهم مساعدون وأنّهم موظّفون (وظيفة تنفيذية) وغابت عن البلاغ الفيسبوكي أيّة إشارة للفاجعة.
صمتت وزارة التربية إلى حدود صباح الثلاثاء 15 أفريل (بعد يوم من الحادث)، ولم تنبس الإدارة الجهوية للتربية في سيدي بوزيد بكلمة إلاّ بعد ساعات طويلة. ومن يتابع الوضع السياسي في تونس قد يجد لهم الأعذار باعتبار مركزة القرار السياسي وانتظار ما يأتي من إشارات أو تنبيهات أو تعليمات. والحديث هنا ليس عن المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة عمّا جرى وإنّما عن الاتّصال.
الصمت خيار اتّصالي “استراتيجي”
ومحصّلة الأمر أنّ الدولة التونسية التي “أعادت” لها إجراءات 25 جويلية السير الطبيعي لدواليبها بدت عاجزة أمام الأزمة. والكلّ يعلم أنّ للأزمات السياسية بمختلف أنواعها (الفجئية والدورية والمتكرّرة والمزمنة) آليات اتّصالية للتعاطي معها. لكن ما شهدناه هو البهتة والصمت. فقد خيّم صمت رسمي رهيب بعد ساعات من الحادث إلى درجة أنّ مؤسسة التلفزة العمومية التي دعاها قيس سعيّد إلى أن ينخرط خطّها التحريري في حرب التحرير الوطني قد عجزت عن إيجاد مخَاطَب يشرح لها (للشعب) ما حدث ولو من زاوية الخط التحريري الذي طُلبت بأن تنخرط فيه.
قد يكون الصمت المؤقت خيارًا اتّصاليا للتعاطي مع الأزمة. ومثل هذا الخيار رغم سلبياته العديدة فإنّه يعكس امتلاك المعنيين لخيار واضح للتعاطي مع الواقع. فالصمت يمنحهم فرصة لمزيد التقييم، ويوحي كذلك بأنّ ما جرى “مجرّد حادث” وليس فاجعة أو كارثة كما يرى “الخصوم السياسيون” وكذلك المتضرّرون المباشرون ممّا جرى.
اعتبار الصمت خيارا ضمن رؤية اتّصالية يمكن قبوله من نظام أعطى الدليل في مناسبات أخرى بأنّه حريص على التواصل مع الشعب لشرح السياسات وإيضاح الخيارات، لكن الواقع يُكذّبنا ويُسفّه مصداقية هذا القول. فدولة تُغلق منافذ النفاذ إلى المعلومة لا يمكنها أن تتخّذ الصمت خيارا موضعيا تفاعلا مع حدث ما. فالسياسات المتّبعة خلال سنوات ما بعد 25 جويلية 2021 تقوم على “الصمت كخيار جوهري واستراتيجي” مع فتح المجال لمتحدّثين غير رسمين لخوص معارك لا تتحمّل السلطة آثارها السلبية لكنّها تستفيد من ريْعها. وعندما يُرخي الليل سدوله يكتشف التونسيون الموقف الرسمي على صفحة الفيسبوك الرئاسية.
حادث أليم في معركة التحرير والثورة التشريعية
حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليلة الفاصلة بين الإثنين 14 والثلاثاء 15 أفريل 2025 يكتشف أولئك الذين لهم في الليل سبحا طويلا بعد أن جعلوه لباسًا بلاغا صادرًا عن رئاسة الجمهورية تضمّن حديثا عن فاجعة المزونة واصفا إيّاها بحادث. فما جرى حادث يمكن أن يحدث في أيّ وقت، هل هو في منزلة حادث المرور أو الحادث المنزلي؟ فاختيار عبارة الحادث دليل على تكييف رئاسة الجمهورية لما جرى. فما حدث مجرّد حادث أليم. وأمام الحادث الأليم نعبّر على الألم ونُحمِّل المسؤولية للمتسبّب فيه.
البلاغ الصادر في ساعة متأخّرة من الليل لم يكن تلخيصا وحوصلة لاجتماع طارئ قبيل ذلك. فالبلاغ يتحدّث عن أنّ الاجتماع تمّ ظهر يوم الاثنين ولم يصدر النص إلاّ في ساعة متأخّرة. وهنا نقف مرّة أخرى على وجهة النظر الرسمية: ما جرى مجرّد حادث لا يستدعي اللجوء إلى آليات اتّصال الأزمة. ومن هنا نفهم كذلك لماذا غاب “حادث” المزونة عن بلاغ رئاسة الحكومة وعن وزارة التربية.
لم يتناول اللقاء بين سعيّد والزنزري “حادث المزونة” حصريا، بل كان موضوعه سير عدد من المرافق العمومية. وأكثر من ذلك تضمّن الحلّ الجذري لهذه المؤسسات حتّى تسير كما ينبغي لها أن تسير، وهذا بعضٌ ممّا يبرّر حديثنا عن الدستور والسير الطبيعي لدواليب الدولة أعلاه. فتحقيق هذا الهدف الذي كان محرّكا لاجراءات 25 جويلية وعنصرا أساسيا في البلاغ الحالي يتطلب عدّة أمور: أوّلها ثورة تشريعية، ثانيها نجاح معركة التحرير الوطني، ثالثها مسؤولون يستنبطون روح النضال والتضحية والفداء، وفق عبارات البلاغ.
والحال أنّ الثورة التشريعية لم تتحقق، ومعركة التحرير ما تزال مستمرّة، والبحث عن هذه الطينة من المسؤولين ما يزال مستمرّا، فمن “الطببعي” أو “العادي’ أن يحدث مثل ذلك الحدث حتّى وإن كان أليمًا. فتلك خسارة جانبية في تلك الثورة، فهل نريد ثورة دون ضحايا؟ هل نتخيّل معركة لا يسقط فيها البعض في حوادث؟
إنُه حادث أليم في نظر البلاغ، وهذا الحادث الأليم ألا يستدعي تعزية أهالي ضحايا الثورة ومعركة التحرير! قد تأتي التعزية لاحقا، لكن كان من الأجدر توجيهها لحظة انعقاد الاجتماع ظهرا أي بُعيْد الحادث أو ليلا خلال أوّل ردّ فعل رئاسي رسمي.
تلك هي المحدّدات التأطيرية لقراءة الموقف الرئاسي الرسمي ل”حادث المزّونة”، أكتفي بها لأنّها تمدّنا بأدوات تفسيرية لما سيأتي لاحقا عن عدم سقوط الحائط بالزلزال وعن تحميل المسؤوليات للمقصّرين في أداء الواجب حسب البلاغ، والحال أنّه في ذات 25 جويلية حمّل منظومة الحكم المسؤولية الكاملة عن حوادث أليمة أخرى، ولم يكتف بمثل هذا الخطاب!