تونس

الصحة في تونس.. من رعاية الدولة إلى ريع الخواص

يسرى ونّاس

معتقلو 25 جويلية

نقص الموارد البشرية والمالية والديون الثقيلة.. عاملان يفسحان المجال أمام الخواص للاستثمار في قطاع الصحة “المُربح

حق لكل إنسان”، بهذه العبارة يُستهل الفصل 43 من الدستور التّونسي،  الذي ينص على أنّ ” الدولة تضمن الوقاية والرعاية الصحية لكل مواطن، وتوفّر الإمكانيات الضرورية لضمان السلامة وجودة الخدمات الصحية كما تضمن الدولة العلاج المجاني لفاقدي السند، ولذوي الدخل المحدود. وتضمن الحق في التغطية الاجتماعية طبق ما ينظمه القانون.”

واقع قطاع الصحة في تونس تعكسه طوابير الناس أمام مستشفى عام أو مركز صحة في منطقة نائية (مستوصف)، قد لا يستوعب الحالات المرضية التي تتوافد في كل ساعة إمّا لفقدان المعدات الطبية اللازمة أو لعطب أصاب آلة “السونار” أو “السكانار” أو جهاز “الرنين المغناطيسي” بل أكثر من ذلك قد لا يجدون طبيب اختصاص يفحصهم أو دواء يُسكن آلامهم.

كغيرها من القطاعات، تشكو “الصحة” في تونس منذ سنوات هشاشة نخرت مفاصلها، بنية تحتية مهترئة، معدات أصابها الصدأ في بعض المناطق…

وهنا تستوقفنا حادثة، فقبل سنوات كنا في تغطية صحفية لاحتجاجات بإحدى الولايات داخل البلاد وعلى مقربة من المستشفى المحلي الوحيد الموجود هناك، حيث  اصطدمنا بواقع مرير.

فالمستشفى الذي من المفترض أن تغطيَ خدماته ولاية بأكملها يفتقر إلى أبسط المعدات، أخذنا الفضول فطلبنا إلقاء نظرة على قسم إجراء العمليات، ورافقنا في زيارتنا تلك الجراح الوحيد الذي يعمل ضمن فريق المسشتفى.

كان الوضع بغرفة العمليات “صادما” بها مقصات صدئة وأدوات جراحة غير مهيأة وأقمشة ملطخة بدماء عملية جراحية سابقة...

**بنية تحتية مهترئة

والوضع لا يختلف كثيرا عن المستشفيات الجامعية الموجودة بالولايات الكبرى، التي على الرغم من توفّرها على أقسام عدّة وأطّباء اختصاص ومعدات متطورة واستقبالها مرضى من مختلف المناطق إلا أنّها بالتقادم ومرور الزمن باتت تفتقر إلى التحديث والصيانة ولا تخلو هي الأخرى من إشكالات .

ولعل إلقاء نظرة على قاعات الانتظار بأقسام “الاستعجالي” التي تعج بمن ينتظر دوره لمعاينة حالته من قبل الطبيب كفيل بتوصيف وضع مستشفيات البلاد.

وعلى الرغم من تسجيل ارتفاع في ميزانيات وزارة الصحة على مدى السنوات الماضية إلا أنه لم يتم تشييد مستشفى جديد منذ زمن.

وقدرت اعتمادات ميزانية الصحة لسنة 2025 بـ4 آلاف مليون دينار أي بزيادة قدرها 70 مليون دينار، بنسبة 1.8% مقارنة بميزانية 2024 (تمثل فيها منحة الدولة 87.6% و تصل مساهمة الصندوق الوطني للتأمين على المرض 14.6% فيما قدرت مساهمة الرسوم المباشرة ومساهمة المواطنين بـ6.8%).

ومن بين ملامح أزمة الصحة العمومية في تونس النقص الحاد في عدد الأطباء سيما منهم المتخصصون، إذ كشفت بيانات عمادة الأطباء أن 1500 طبيب غادروا البلاد سنة 2023 للعمل في دول أوروبية وعربية، وهو ما دفع وزارة الصحة إلى العمَل على وضع الآليات الملائمة لاستعادة الأطباء التونسيين من الخارج.

**رهين الخواص

وكلها عوامل فسحت المجال أمام الخواص للاستثمار في قطاع “مُربح” ويسرت الأمور أمام رؤوس الأموال للاستشمار وضخ أموال طائلة فتصبح المصحات أشبه بفنادق من صنف خمس نجوم تستقطب فئات اجتماعيّة معيّنة وتقدم خدمات جمّة بفواتير باهظة …

وبذلك بات الحق في الصحة رهين المصحات الخاصة في ظل عجز عدد من المستشفيات عن توفير خدمات صحية أو تأخيرها إلى آجال غير معلنة.

وارتفع عدد المصحّات الخاصّة في تونس ليشهد تطوّرا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، من 83 مصحّة سنة 2013 إلى 114 مصحّة في 2022، وفق إحصائيات نشرها المعهد الوطني للإحصاء.

كما شهد عدد الأسرّة في المصحّات الخاصّة ارتفاعا من 4 آلاف و92 سريرا في 2014 إلى 7 آلاف و334 سريرا سنة 2022.

*    سياسة دولة

يقول هشام بوغانمي عضو جامعة الصحة بالاتحاد العام التونسي للشغل: “لسنا ضد وجود القطاع الخاص في مجال الصحة لكنه يبقى غير قادر على تعويض الصحة العمومية أو أن يكون رافدا من روافد التنمية في البلاد .”

ويضيف بوغانمي: “القدرة الشرائية للتونسيين لا تسمح لعدد كبير من التونسيين بالاتجاه نحو المصحات الخاصّة سيما في ظل ما تعانيه صناديق التغطية الاجتماعية من صعوبات مالية جعلتها غير قادرة على استرجاع مصاريف العلاج في القطاع الخاص“.

ولفت بوغانمي إلى أن أغلب التونسيين ونتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة يتوجهون إلى المستشفيات العامة على أمل تلبية انتظاراتهم ليتفاجؤوا في كثير من الأحيان بنقص المعدات ما يؤدي إلى تأخير مواعيد المرضى ممن سيجرون فحوصات بأجهزة “السكانار”  أو “الرنين المغناطيسي” أو مواعيد التصوير بالأشعة تصل إلى عامين“.

وقال: “الصحة العمومية هي سياسة دولة مثلها مثل التعليم، ونحن متشبثون بهذا الحق الذي كرسته مختلف الدساتير التي تعاقبت على البلاد وهو ما يفرض على الحكومات تنزيله على أرض الواقع.”

وشدد على أنّ “الحل يكمن في أن تصبح الصحة العمومية ذات أولوية لدى السلطات وعندها لن نلاحظ  أطباء ويد عاملة مختصة وإطارات شبه طبية هاجروا بسبب الافتقار إلى الظروف الملائمة للتمكن من ممارسة مهنتهم على أكمل وجه.”

واعتبر النقابي  أنّ إشكال قطاع الصحة العمومية يكمن في نقص الموارد البشرية سيما منها المختصة في ظل موجة الهجرة الكبيرة الأطباء والممرضين إلى أوروبا وكندا يقابلها نقص في الانتدابات والتوظيف.

وأضاف أنّ “هناك نقصا في التجهيزات والمعدات الطبية التي تلبي انتظارات المواطنين سيما في المناطق الداخلية .

وأشار إلى أنّ ما وصل إليه القطاع اليوم هو نتيجة لسياسات متعاقبة جعلت من الصحة العمومية ليست ذات أولوية وأنّ جائحة كورونا الأخيرة أثبتت أن قطاع الصحة في تونس قطاع هش لا يلبّي طموحات التونسيين، وفق تعبيره.

**فواتير طائلة

وفي السياق ذاته يؤكّد الكاتب العام لعمادة الأطبّاء التّونسيين، ورئيس اللجنة الطبية بمستشفى شارل نيكول، نزار العذاري  أنّ إشكاليات قطاع الصحة العمومية تتلخَص في نقص الموارد المالية والبشرية وفاتورة الصناديق الاجتماعية..”

وأوضح أنّه “منذ سنة 2019 وإلى غاية اليوم لا توجد انتدابات في وزارة الصحة ولم يتم منذ ذاك التاريخ تعويض من أحيلوا على التقاعد وهو ما يفسر نقص الموارد البشرية في المستشفيات الجامعية“.

وشدد العذاري على ضرورة تمويل ودعم قطاع الصحة الذي يعاني من مشاكل فاقمتها أزمة كوفيد حتى يتطور.

وأشار إلى وجود عمل هام صلب وزارة الصحة لتحسين منظومة الصحة العمومية ومنها تشجيع الشباب للبقاء في تونس وتقليص العنف داخل المستشفيات وإضافة توقيت مسائي حتى لا تتوقف المنشآت الصحية عن إسداء خدماتها للمواطنين .”

وتابع أنه “لم تتم إلى اليوم مراجعة تسعيرة المستشفيات العمومية التي تعود إلى التسعينات إضافة إلى وجود ديون متخلدة بذمة الصناديق الاجتماعية لم يتم إرجاعها بعد وهو ما يضعفها ويجعل خدماتها متراجعة ويفقدها تمويلات إضافية كانت ستطورها أكثر.”