“تحدّى ضعف البصر وكان قوي البصيرة فصار أحد أعمدة الهوية التونسية”.. البراق مقرئ كل الأزمان
هو الصوت الخالد والمقرئ المتفرد الشيخ علي البراق الذي اقترن صوت الآذان في تونس باسمه سيما في شهر رمضان.
صاحب القراءات القرآنية المتميزة، يتحرك صوته بين مختلف الطبوع والمقامات فيسكن مهجة السّامعين ويأسر قلوب المصغين إليه.
ولد الشيخ علي البراق في مدينة القيروان سنة 1899، وارتاد منذ نعومة أظافره “الكتاب القرآني” وفيه تربّى على أصول الدين والفقه الإسلامي ومنه حفظ الكتاب الكريم وختمه.
تميّز البراق بتلاوة الذكر الحكيم الذي طبع فيه بصمته الخاصّة ترتيلا وتجويدا بالقراءات السبع.
والقراءات السبع هي القراءات المنسوبة إلى الأئمة السبعة المعروفين وهم نافع المدني وعاصم بن أبي النجود الكوفي وحمزة بن حبيب الزيات وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وعلي الكسائي.
تحدى ضعف البصر
وكان الشيخ البرّاق كفيفا، ولكنه تحدى ضعف البصر فكان قويّ البصيرة ولم يثنه ذلك عن مواصلة دربه فكان رمزا للتلاوة القرآنية وفق المقامات التّونسية.
أصبح بصوت الذي لا يضاهيه أحد، عمودا من أعمدة الهوية التونسية وركنا من أركان الثقافة الإسلامية لا في تلك الفترة فحسب وإنما إلى غاية هذا اليوم.
فقد تربت على قراءات البراق أجيال، فصوته لا يغيب عن مختلف المناسبات الدينية إذ يسجل حضوره خاصة في آذان المغرب لشهر رمضان فتصغي له الآذان بإمعان لما يحمله من خصوصية وميزات لا تجد بدا للمنافسة.
قال عنه عميد الأدب العربي طه حسين: “صوته يعيدنا إلى الزمن الأول لنزول القرآن وبدء الحضارة العربية”.
كان ذلك لدى سؤاله عن أصوات المقرئين الأقرب إلى وجدانه وروحه فأكد طه حسين أن علي البراق كان رفيقه في خلوته، ولعل ما نسمعه اليوم من تسجيلات للبراق خير دليل على ذلك.
قرّب النص القرآني إلى أفئدة التّونسيين
وقد مزج البراق بين الدنيوي والمقدس فجمع كل التونسيين وقرّب النص القرآني إلى أفئدتهم.
وهو أول صوت دشن البث الإذاعي التونسي سنة 1938 وتلا عبر أثيرها آيات بينات من الذكر الحكيم حين ألحقه بها المفكر التونسي عثمان الكعاك الذي كان يلقّب آنذاك بموسوعة تونس.
وساهمت الإذاعة في انتشار صوت البراق إلى مختلف المستمعين الذين حاكت ترانيم صوته وجدانهم.
وظلت تسجيلات قراءات الشيخ علي البراق إلى الآن في خزينة الإذاعة التونسية فهي عبارة عن إرث ثمين يعكس ركنا من أركان الثقافة الإسلامية وتأصلها في البلاد.
زخم علمي ومعرفي
وبالعودة إلى صغره وشبابه، فإن علي البرّاق التحق بحلقات الذكر الصوفي وواصل تكوينه في اللغة العربية في نحوها وصرفها ورسمها في الصرح القيرواني جامع عقبة بن نافع.
تتلمذ على يد الشيخ الهادي بن محمود الغزي والشيخ محمد القاسم النجار الذي علمه حفظ القرآن برواية قالون عن نافع المدني فأتقن مخارج الحروف وتعلم أصول الترتيل فكانت له غُنة متفردة خاصة به.
انتقل إلى تونس فكانت له فسحة في جامع الزيتُونة المعمور أين أنصت إلى كبار المشائخ على غرار الشيخ محمد التريكي وأكمل تعليمه الزيتوني.
دخل على إثرها وتحديدا في فترة الثلاثينات إلى فرقة سلامية محمود عزيز بالعاصمة فكان من بين متقني بحور الإنشاد الصوفي.
رحلته إلى تونس العاصمة استمرت طويلا فانتقل من الزيتونة إلى جامع صاحب الطابع بالحلفاوين حيث أم المصلين في صلاة التراويح وكان مؤذنا فيه أيضا.
ووجد مكانا له في منافسة دارت بين كبار المقرئين في العالم الإسلامي في فترة برز فيها كل من عبد الباسط عبد الصمد ومحمد رفعت ومحمد الصادق المشناوي.
صوت صدح من الحرم المكي
وكانت للبراق فرصة زيارة البيت الحرام في مناسبتين حجة أولى وثانية، أما في الثانية فكان له شرف ترتيل القرآن يوم الجمعة في الحرم المكي، فشدّ الحجيج المنصتين إلى صوته المتميز في قراءة “سورة الفتح” حتى أن عددا هاما منهم أتوا بعد ذلك لتهنئته.

وتغنى البراق بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ونظم فيه قصيدة بعنوان “يا سيد السادات”.
توفي الشيخ علي البرّاق بمدينة تونس سنة 1983 إلا أن صوته العذب بقي “حيّا” وتلاوته العطرة ظلت حاضرة في كل المناسبات الدينية ترافق الصائمين خاصة في شهر رمضان.