لم يكن حديث الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن “توجيه الدعم لمستحقّيه” إلّا شعارا ومدخلا للترفيع في أسعار بعض المواد الأساسيّة التي تكبّد ميزانيّة الدولة أعباء كبيرة.
ويُعتبر التقليص من الميزانية المخصّصة لدعم المواد الأساسية الغذائية شرطا من شروط صندوق النقد الدولي، لمنح تونس قرضا قيمته 1,9 مليار دولار.
ورغم إجماع كافة المختصّين والمسؤولين على أنّ مراجعة منظومة الدعم إجراء لا بدّ منه في ظلّ اختلال الموازنة العامّة، إلاّ أنّ الاختلاف كان دائما في طريقة تنزيل هذه المراجعة على أرض الواقع ومرافقة الدولة للفئات المتضرّرة من رفع الدعم.
ورغم إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد منذ 25 جويلية 2021 رفضه إملاءات الصندوق، وإطلاقه تصريحات رافضة للمسّ من السلم الإجتماعية في إشارة إلى إمكانية اندلاع احتجاجات نتيجة الترفيع في الأسعار، فإنّ أداء منظومة الحكم وتحديدا الحكومة يسير في الإتّجاه المعاكس.
ومن بين أبرز الإملاءات التي اشترطها صندوق النقد الدولي على حكومة نجلاء بودن، وقد انطلقت في تطبيقها فعليا، هي الرفع التدريجي للدعم تحت الشعار نفسه “توجيه الدعم إلى مستحقّيه” ولكن في غياب أي إجراءات مرافقة للفئات الهشّة والفقيرة.
وما يؤكد ذلك أزمة غياب المواد الأساسيّة المدعّمة في الأسواق ومعاناة التونسيّين مع الطوابير لتحصيل بعضها، ثمّ إقرار الحكومة لزيادات في أسعارها عند توفّرها مستغلّين اضطرار المواطن للقبول بالأسعار الجديدة للمواد التي يطالب بتوفيرها.
وأقرب مثال على ذلك إقرار وزارة التجارة “لإعادة هيكلة أسعار مادة القهوة” والتي شهدت أزمة في توفيرها في الأسواق، ثم أقرّت الدولة زيادة بـ 5300 مليم في الكيلوغرام الواحد وبدأ تطبيق التسعيرة الجديدة منذ يوم أمس الجمعة 7 جويلية 2023.
واعتبر نائب رئيس الغرفة الوطنيّة لأصحاب المقاهي صدري عزوز أنّ هذه الزيادة في الأسعار تعني رفع الدولة للدعم عن مادة القهوة وبالتالي ستكون خاضعة منذ الآن للأسعار العالميّة وقاعدة العرض والطلب.
ولم تكن القهوة إلاّ محطّة من محطّات رحلة معاناة التونسيّين مع المواد الأساسيّة، فغاب الحليب المدعّم (1350م) طيلة أشهر وانتعشت بقيّة الأنواع (أقلّها 2100)، وغاب الزيت النباتي المدعّم (900م/ للتر) وغزت بقيّة الزيوت الأسواق (أدنى سعر للتر 4000م)، وقس على ذلك الدقيق ( الفارينة والسميد)، وقد تمّ الترفيع في سعر السكّر مكعّبات ومظروفات في مناسبتين خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، أمّا السكّر السائب فهو مفقود في أغلب الحالات.
وفي تعليقه على هذا الأمر اعتبر الأمين العام للاتّحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، خلال كلمة ألقاها في افتتاح أحد المؤتمرات القطاعيّة في 18 جوان 2023، أنّ “الدعم عن المواد الأساسية رُفِع”.
وأضاف متسائلا: “مسؤول حكومي يقول إنّ نفقات الدعم قد تقلّصت، أتساءل كيف ذلك؟ هل انقطع الشعب عن الأكل والشرب! لا بل تقلّصت بانقطاع المواد الأساسية وبندرة هذه المواد”.
وكشفت بيانات نشرتها وزارة المالية حول النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى حدود نهاية شهر مارس 2023، تراجعا ملحوظا في النفقات الموجهة لدعم المواد الأساسية إلى 42,9 مليون دينار مقابل 400 مليون دينار في الفترة ذاتها من سنة 2022.
ولم تقدم وزارة المالية، في الوثيقة التي نشرتها على موقعها الرسمي على شبكة الانترنات، تفسيرا واضحا لتراجع دعم المواد الأساسية، التي من المتوقع أن تصل قيمته إلى 2523 مليون دينار نهاية السنة الجارية حسب تقديرات قانون المالية لسنة 2023.
لكن التفسير الوحيد هو أنّحكومة نجلاء بودن تتهيأ للمرور إلى حقيقة أسعار المحروقات خلال السنة الجديدة عبر التعديل الدوري للأسعار، حيث سجل قانون الموازنة خفض نفقات الدعم بنسبة 26.4 ٪ مقارنة بسنة 2022، وذلك لأول مرة في تاريخ البلاد.
كذلك خفضت حكومة نجلاء بودن التونسية هذا العام، نفقات التدخّل المتعلقة بالتحويلات الاجتماعية لفائدة الطبقات الضعيفة بنسبة 8 ٪، وفي حين وعدت السلطة بتعويض ما لا يقل عن 8 ملايين تونسي عن رفع الدعم عبر التحويلات المالية المباشرة، قد قلصت في نفقات التدخل بنحو 8 ٪، حيث تراجعت قيمة هذه النفقات من 18.7 مليار دينار إلى 17.2 مليار دينار متوقعة في العام الحالي.
وكان ملف دعم المحروقات وخطّة الحكومة لتعديله سببا في إقالة وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي على خلفية حديثها عن اقتراب الحكومة من إعداد برنامج توجيه الدعم لمستحقيه، مؤكدة أنّ السلطات منكبّة على دراسة فرضيّات توجيه الدعم بصفة محكمة، وهي في مراحلها الأخيرة، قائلة إن رزنامة التعديل في أسعار المحروقات ستتوضح مع انتهاء الحكومة من إعداد برنامج إصلاح منظومة الدعم.