الشباب التونسي.. “طاقة مهدورة” يحاصرها اليأس والبطالة!

الشباب التونسي

 

 

محمد بشير ساسي

قبل عقد ونصف تقريبا، فتح خروج الشباب إلى شوارع تونس بعد الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الباب على مصراعيه لمقاربة الأحداث من زاوية نظر جيلية، واعتبار تلك “الهبة غير المسبوقة” نحو الفضاء الذي كان محكوما بقبضة الأمن الحديدية تتويجا لمسار نضالات متلاحقة من أجل تحقيق الحرية والكرامة والشغل.

تهميش ممنهج

منذ تلك اللحظة الفارقة وما تلتها من أحداث وتجاذبات، أغدقت الطبقات السياسية المتعاقبة على المشهد وعودا كثيرة، ورفعت سقف أحلام “الفئة المجتمعية المهمّشة” وعزّزت آمالاها في التغيير نحو الأفضل.
بعد فترة طويلة من التخبطات السياسية وعدم الاستقرار والثبات على رؤية تنموية ومعالجات جادة بينت التقييمات والمؤشرات بأن تلك “الفئة” التي تمثل أكثر من 25% من عموم التركيبة السكانية بتونس (أي ما يفوق 3 ملايين شخص) ظلت حبيسة دائرة التهميش المُمنهجة لعقود لتُحرم من ثمار “الانتفاضة” على الرغم من أنّها هي من أشعل شرارتها الأولى.

قبل سنوات، كان تقرير صادر عن “مجموعة البنك الدولي” بعنوان: طريق المضي قدما: “السياسيات والمؤسسات الشاملة للشباب” قد نبّه من أنّ إشراك الشباب التونسي ما زال مشروعا غير منجز إلى حد كبير، وسيكون الوفاء بالتطلعات المشروعة للشباب على الوجه الأكمل ذا أهمية بالغة للحفاظ على زخم تحرّكهم الايجابي للمضي قدما.
وعرض التقرير اهتمامات الشباب التونسي وتطلّعاتهم، وهويّتهم وشرح معاناته في تلك الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المخيّبة للآمال.

وبيّن التقرير أن ثورات الربيع العربي أظهرت أن الإقصاء الاقتصادي قضية بالغة الأهمية، وهي ليست على الإطلاق الشكل الوحيد من أشكال الإقصاء الذي يعاني منه الشبان والشابات. كما حذر التقرير آنذاك من تعرّض الشباب لمجموعة واسعة من الأشكال الأخرى للإقصاء السياسي والاجتماعي والثقافي، التي قد تؤدي بدورها إلى تفاقم إقصائه الاقتصادي.

أرقام صادمة

في ظل أزمات متعددة الأبعاد؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، تحاصر “الشباب” اليوم كومة من المنغّصات، وفي غياب الإرادة الفعلية لاسثمار “الطّاقة المهدورة”، تتعاظم المخاطر من حولها يوما بعد يوم، وهذا ما تترجمه الأرقام الصادمة التي كشف عنها في الآونة الأخيرة المعهد الوطني للإحصاء.
وأظهرت بيانات المؤسسة الحكومية أن البطالة تستفحل في أوساط الشباب، حيث لا تتعدّى نسبة الشباب النشطين 46.6%، بينما 32.5% من الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين 15 و34 عاما لا يشتغلون ولا يتلقون أيّ تدريب مهني أو دراسة.

ويعدّ الشباب، وفقا للبيانات المعلنة الأكثر تعرّضا للبطالة بنسبة عامة تصل إلى 29.9% فيما تصل هذه النسبة في صفوف الإناث إلى 50%، إذ يقدر عدد السكان المعطلين عن العمل بنحو 765 ألف نسمة مقابل 3.6 ملايين ساكن مشتغل.

وتظهر البيانات نفسها أن نسبة الأمية في صفوف الشباب تصل إلى 4.7%، وترتفع هذه النسبة إلى 7.4% لدى الشباب في الأوساط الريفية، لا سيما لدى الفئة العمرية التي تتراوح ما بين 30 و34 سنة.
وحسب معهد الإحصاء، تؤثر البطالة المستفحلة في صفوف شباب تونس في قدرتهم على بناء أسر، حيث شهدت البلاد ارتفاعا كبيرا في متوسط عمر الزواج الذي ارتفع من 28.1 سنة لدى الذكور عام 1984 إلى 35.3 سنة عام 2024، بينما زاد متوسط سن الزواج خلال الفترة نفسها من 22.6 سنة إلى 28.9 سنة لدى الإناث. كما تصل نسبة العزوبية لدى الشباب ما بين 15 و34 عاما إلى 89% لدى الذكور و69% لدى الإناث.

انحراف البوصلة

أمام هذه الأرقام والمعطيات الصادمة أطلق مراقبون وخبراء ومختصون اجتماعيون صيحات فزع وتحذير من انحراف بوصلة الشباب نحو منزلقات خطيرة، خصوصا بعد تحوّل البطالة في تونس منذ سنوات إلى أزمة هيكلية نتيجة قصور في توفير آليات جديدة لاستيعاب الوافدين على سوق العمل وتحسين نسب النمو الخالقة للثروة وفرص الشغل، بينما تشهد البلاد تواترا في الاحتجاجية لطالبي الشغل. ورصد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، خلال شهر أوت، 323 تحركا احتجاجيا لطالبي العمل اللائق.

فاصطدام الشباب بهذا الواقع المعقّد وحرمانه من ثمار الانتفاضة، ينذران بأن كل هذه “الطاقات المهدورة” ستتسع رقعة قطيعتها مع الواقع ومع الحكومات المتعاقبة التي لم تستثمرها وتوظفها لعدم قدرتها على ذلك أو لغياب الإرادة الفعلية على القيام بذلك لانشغالها بالمسائل السياسية والصراع على الحكم.

رسائل ملغمة

هنا تحديدا ستصنع تلك الأوهام التي روّجتها الحكومات طوال السنوات الماضية ألغاما اجتماعية تعكس شعارات غاضبة وأحيانا غير مفهومة تحمل عدة رسائل ملغّمة يمكن أن نحدّدها في المستويات التالية:
– الظاهرة تعكس هشاشة السياسات العمومية في معالجة ملف التشغيل، خاصة مع تزايد التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، الأمر الذي دفع منظمات المجتمع المدني وعدد من الخبراء المطالبة بضرورة وضع إستراتيجيات عاجلة لإعادة الثقة في السوق الوطنية وخلق بيئة محفّزة للاستثمار والتشغيل.

– البطالة تزعزعُ الاستقرار السياسي وتضعف الثقة في المؤسسات المنتخبة وتُغذي الشعور بالظلم، ما يُهدد بالفوضى والاحتقان الاجتماعي خاصة في المناطق المهمّشة.
– نسب البطالة المرتفعة وغياب الأفق الاقتصادي العديد من الكفاءات تدفعان الشباب إلى البحث عن فرص أفضل خارج البلاد، بما تنجرّ عنهما خسارة موارد بشرية مهمة يمكن أن تسهم في دفع التنمية.
وتشير معطيات حديثة صادرة عن جهات رسمية إلى أنّ أكثر من 150 ألف تونسي غادروا البلاد خلال السنوات الخمس الأخيرة من أجل الاستقرار في الخارج، في مؤشر يعكس تواصل نزيف الهجرة خصوصا في صفوف الشباب والكفاءات.

– ارتفاع البطالة يدفعُ نحو تآكل الطبقة الوسطى وازدياد الفقر، مما يضعف الروابط الاجتماعية ويؤدي إلى العزلة وتأخر سنّ الزواج وتراجع تكوين الأُسر ما يُحدث خللا في التوازن الديمغرافي والاجتماعي.
– البطالة الطويلة قد تدفعُ بعض الشباب إلى سلك طرق غير قانونية لتأمين لقمة العيش مثل السرقة أو التهريب أو تجارة المخدرات.
– في غياب الاستقرار المالي يسقط الشباب في فخ الاضطرابات النفسية الحادة التي قد تنتهي بالانتحار والاستقطاب من قبل الجماعات المتطرفة والخطابات المتشدد، إذ تشير عديد أشارت إلى أنّ نحو 40٪ من المعطلين عن العمل يعانون من أعراض اكتئاب متفاوتة الشدة.

بصورة عامة البطالة ليست مجرد رقم في الإحصاءات، بل هي قنبلة اجتماعية صامتة تهدد حاضر تونس ومستقبلها واستمرار نزيفها بهذا الشكل يعني خسارة جيل كامل من الشباب الذين يُفترض أن يكونوا عماد التنمية.
فالتحدي الحقيقي اليوم هو تحويل الشباب من عبء اقتصادي إلى قوة إنتاجية قادرة على الإبداع وبناء المستقبل وهذا يتطلب إرادة سياسية واستثمارا ذكيّا في التعليم، وفرصا عادلة لكل شاب أينما كان عبر تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتنمية الجهات الداخلية وكذلك دعم الاقتصاد الرقمي للعمل عن بُعد أو في مجالات التكنولوجيا الحديثة.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *