ثقافة رأي

الشارات الموسيقية لدراما رمضان تونس 2025.. سباق محموم نحو التميّز

في انتظار “وادي الباي”.. أربعة مسلسلات وأربع شارات بين صامتة ومُغنّاة أسرت أذن المُشاهد قبل عينه.. فلمن ستكون الغلبة؟
صابر بن عامر
يُعتبر عنوان الكتاب أو غلافه مُحدّدا لفكرة القارئ الأولية عنه.
وينسحب هذا الأمر كثيرا مع المولعين بالدراما التلفزيونية، حيث ينتظر المُتابع الشغوف بالموسم الرمضاني الدرامي، الوحيد، وللأسف في تونس، مع انطلاق اليوم الأول من البثّ، جينيركات/ تترات المسلسلات، وما تحمله من موسيقى وأغنيات لاختيار مسلسله المفضّل.
فتأتيه بعضها موفّقة عاكسة لأجواء المسلسل ومحتواه، ومتّسقة مع انتظاراته، فيما تأتيه أخرى دون معنى ولا هدف، بل ومخيّبة لآماله، أصلا.
ألحان مرجعية
لعبة تشويقية خبرها صنّاع الدراما التونسية، منذ تسعينات القرن الماضي، فتفنّنوا في ابتكار ألحان حتى دون كلمات لشدّ انتباه المُشاهد منذ الحلقة الأولى، فينسى أحيانا المُتابع أحداث العمل وشخصياته مع مرور الزمن، لكنّه لن ينسى أبدا موسيقى العمل.
وجينيريك مسلسل “الدوار” (1992) لعبدالقادر الجربي إخراجا وحسين المحنوش كتابةً وحوارا، خير دليل على ترسّخ موسيقى المايسترو المنذر الديماسي في الذاكرة الشعبية للمواطن التونسي، وإن بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود من إنتاجه.
موسيقى حملت بين “نوتاتها” ثقل المسلسل بهموم شخصياته وجمال واحاته وانتصار أبطاله حينا وانكسارهم في أحيان أخرى..
فأتت الموسيقى متموّجة بين صعود ونزول، بين اللين والقسوة، بين الهدوء والصخب كحال كثبان الصحراء وتقلّباتها أثناء الإشراق وغداة الغروب.
الأمر ذاته انسحب، ولو بعد سنوات، على موسيقى مسلسل “صيد الريم” (2008) لعلي منصور، والذي أدّاه الفنان صابر الرباعي عن كلمات لحاتم القيزاني وألحان لربيع الزموري.
وفيه يصرخ الرباعي في مطلع الأغنية التي مثّلت الحدث في رمضان 2008، صادحا بكثير من الشجن “يا صياد.. يا ظالم ما تنساش (لا تنسى).. صيد الريم محال يمشي بلاش (يمرّ دون عقاب).. دور يا زمان مهما كان الحق يبان (يظهر) آه يا بن آدم.. ياللي ظالم.. كانك فاهم (إن كنت تفهم)”.
وهي صرخة مُعبّرة عن محتوى المسلسل الذي وضعت له السيناريو رفيقة بوجدي وأخرجه علي منصور، ليطرح عبر حلقاته العشرين قضية التحرش الجنسي الذي تتعرّض له بعض العاملات في مصانع الملابس الجاهزة بتونس ما قبل ثورة 2011.
بوابة النجاح من عدمه
ولأنّ شارة بداية المسلسل ونهايته سواء كانت مقطوعة موسيقية أو أغنية بوابة نجاح العمل الدرامي من عدمه، وهي التي يفترض أن تعكس محتوى العمل، وتُمهّد الطريق لطاقمه من أجل تحقيق متابعة قياسية لمنجزهم الفني لدى جماهيرهم المتعطّشة لكل ما هو جديد ومُختلف.
تنافس القائمون على الدراما التونسية خلال الموسم الرمضاني الحالي في ما بينهم لاختيار الأفضل على مستوى الكلمات والألحان، وخاصة المُطربين والمطربات، وطبعا “الرابورات”.
فراهنت سوسن الجمني في “الفتنة” كعادتها في مسلسليها السابقين “الفوندو” و”فلوجة” على ألحان الموسيقي مهدي المولهي، الذي قدّم -هذه المرّة- بصوت الرابور “جنجون” والفنانة الصاعدة رنا زروق لحنا هادئا بكلمات مُباشرة عكست أجواء الصراع البارد حينا والمُلتهب أحيانا بين أبناء الأب المُنتحر “العربي السلامي” على الميراث، وما أشقاهم مع الميراث.
كل ذلك يحدث وسط حبكة درامية تتناول الغيرة، الخيانة، والانتقام، ضمن سياق من التوتّر والتشابك العائلي.
وهو ما نجح فيه أيضا مسلسل “الزعيم” لحمدي الجويني، الذي أدّى جينيريكه الفنان الشعبي وليد الصالحي في أول تجربة غنائية له في الشارات الموسيقية عبر أغنية “مجروح” من كلمات معز الدادسي وألحان وليد الصالحي نفسه.
أغنية عبّرت وبقوّة عن الأجواء الشعبية للعمل، والصراع الحاصل بين أبطاله، ليُطعّمها الصالحي أيضا بمجموعة من الأغاني التي تمّ إنتاجها خصيصا لهذا العمل في شكل موسيقى تصويرية مُصاحبة تماهت مع السرد الدرامي للأحداث.
جينيريك وأغنيات لامست فكرة العمل وأحداثه المتحدّثة عن “هيثم” (أحمد الأندلسي) الذي يخرج من السجن بعد قبوعه فيه لعشر سنوات، وذلك بعد أن وقع ضحية مكيدة دُبّرت له من أقرب صحبه، ليجد حياته مدمّرة: زوجته تزوّجت، ابنه مفقود، وأعداؤه ازدادوا قوّة.
وبين حقيقة ماضيه التي تُلاحقه في كل خطوة والحب غير المتوقّع الذي طرق بابه، يجد هيثم نفسه مُمزّقا بين الانتقام والبدايات الجديدة.
أما مفاجأة رمضان 2025 دون منازع من حيث شارات بداية المسلسلات ونهايتها، فأتاها هذا العام الصوت الطربي العائد بعد طول غياب سليم دمق عبر أغنية “ليامات” شارة مسلسل “رافل” لربيع التكالي.
وهي شارة بداية ونهاية لعمل مُختلف وضع كلماتها حاتم القيزاني في توزيع لعبدالباسط بلقايد، وماستر مُشترك لعدنان شقرون محسن الماطري، أما التلحين فأتاه سليم دمق نفسه.
واللافت في لحن جينيريك “رافل”  وكلماته، هو النسق الهادئ على إيقاع “الفالس” الذي اختاره سليم دمق، عاكسا رغبته في تعميق التواصل العاطفي بين المُشاهد والشخصيات، بدل الاعتماد على الإثارة السريعة دون ترك أثر.
وكأنّ دمّق أراد أن يعيش الجمهور من خلال لحنه القريب من الجاز وبكلمات القيزاني الحالمة معاناة الشخصيات بتفاصيلها وتوتّرها الذي لا يُبنى بالصراخ، بل بالصمت والنظرات الحمّالة لآلامها وآمالها أيضا.
و”رافل” المستوحى من قصة حقيقية للشاب “رعد” الذي ولد في جزيرة جالطة، قبل أن يفقد والديه على يد المافيا الإيطالية، ممّا استوجب نقله إلى دار للأيتام، حيث قضى طفولته بها.
وعند تنقّله إلى تونس يقع اعتقاله من قبل الشرطة ليتمّ إلحاقه بالتجنيد، فيجد نفسه بين أسوار الثكنة العسكرية، ويشهد على أحداث قفصة عام 1980، العملية المسلّحة التي فشلت في إسقاط نظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.
والمطربون والمغنون، في الأعمال الثلاثة السالف ذكرها، هم حجر الزاوية في هذا الباب، على اعتبار أنّ الذائقة التونسية خاصة والعربية عامة لم تستسغ بعد، تترات المقدّمات الموسيقية التي يُصطلح عليها بـ”الصامتة” وما هي بصامتة، قطعا.
فهي مُعبّرة بقياس اللحن والنوت التي يُمكن أن يُبدعها سليل عائلة فنية حدّ العظام اسمه حمزة بوشناق، واضع شارة بداية ونهاية مسلسل “رڨوج” لعبدالحميد بوشناق في جزأيه.
وهي موسيقى حالمة وغامضة في آن تعكس الأجواء الفانتازية للعمل الناقل والناقد لسلوكات اجتماعية وقضايا سياسية نخرها الفساد والمحسوبية والإجرام.
كلّ ذلك يقع عبر كوميديا سوداء بوصفها سلاحا لتعرية الواقع والكشف عن معاناة المواطن التونسي أمام غلاء الأسعار، وتغوّل الفاسدين، وانتشار ظاهرة التهريب من خلال مواقف وشخصيات مُضحكة مُبكية معا.
ولأننا شعوب “قواّلة” بالأساس، تنتصر للكلمة أولا وأخيرا، على خلفية أنّ “الشعر هو لسان العرب”، فإنّ الموسيقى التصويرية لـ”رڨوج” أتت استثناءً في المدوّنة الموسيقية للموسم الرمضاني السابق والحالي، لتنجح بإيقاعها الباذخ حلما ودمعا في أسر أذن المُشاهد قبل عينه.
الأذن تعشق قبل العين دائما
نجاح شارات موسيقى مسلسلات رمضان 2025، هو تبشير بجيل موسيقيّ بقديمه وجديده فهم أنّ الموسيقى التصويرية بطل لا محيد عنه في السينما والتلفزيون، شأنه في ذلك شأن السيناريست والممثل والمخرج، بل هو “ملح” المشهد الدرامي الذي دونه يأتينا العمل بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
أربعة مسلسلات وأربع شارات موسيقية تشي هذا العام بمنافسة شرسة ليس على مستوى نسب المُشاهدة فقط، بل تتجاوزها نحو الكشف، لاحقا، عمّا سيُخلّده التاريخ من ألحان فارقة، سيظلّ المُشاهد يترنمّ بها سنوات بعد انتهاء العرض..
هذا دون أن ننسى ما ستجود به قريحة الموسيقي ربيع الزموري عبر مسلسل “وادي الباي” لراوية مرموش، المزمع عرضه على الوطنية الأولى في النصف الثاني من شهر الصيام.
شارة موسيقية لا نعلم عنها إلى حدّ الآن سوى أنها بصوت الفنان الصاعد عصام عبدالنور وألحان صاحب شارات المسلسلات المرجعية في تاريخ الدراما التونسية، على غرار “صيد الريم” و”فرحة عمر”، و”يوميات امرأة”، و”عند عزيّز”، و”ناعورة الهواء”، و”دار الخلاعة” وغيرها من الكثير.. فلمن ستكون الغلبة؟