“القائد المشتبك” الذي أسقط في لحظاته الأخيرة سرديات الاحتلال واختزلت الأريكة مشهدية الصمود والنهاية
وسط الصور التي سربتها قوات الاحتلال لجثمان الشهيد يحي السنوار، كانت ساعة معصمه المستديرة والمميزة، لافتة رغم الغبار والأنقاض التي طوقها، لتكون بمثابة شاهدة على النهاية التي طالما تمناها وجاهر بها بأن يكون اغتياله على يد الاحتلال، فجاءت “ساعة الختام” مضمخة بمشهدية أيقونية، خلدت صورة قائد أكبر فصيل فلسطيني مقاوم، مشتبكا بشكل مباشر مع العدو على خط النار، متزنرا ببندقيته، على غرار الشيخ الشهيد عز الدين القسام قبل حوالي 80 عاما، والذي يحمل الجناح العسكري للحركة اسمه تيمنا بإرثه الجهادي.
“إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها”، حكمة وحديث ينسب إلى النبي الأكرم، تعظيما وتأكيدا ودلالة على قيمة “العمل والإنجاز” وقداسته، فكان قائد حماس خير مثال في “ساعته الأخيرة” عندما رمى بعصاه مسيرة العدو، دون أن يحاول الاختفاء بين زوايا المنزل الذي تحصن به، ولم يتهيب لقاء جنود الاحتلال، رغم إصابته في ذراعه.
رمزية الساعة
رافقت الساعة الشهيد السنوار في معظم سنوات حياته، حتى داخل الأسر، وفق ما تنقله صفحات مقربة من حركة حماس، وكأنها كانت تعكس إدراكه الضمني أن الوقت المتاح أمامه مناضلا ومقاوما محدود.
كان هذا الوعي محفزا للسنوار طوال المساحة الزمنية المتاحة له، وخاصة خلال السنوات التي أعقبت تحريره في 2011، للعمل على تحقيق إنجازات نوعية يستكمل بها مسيرة من سبقوه من القيادات التاريخية للمقاومة، على المستوى التنظيمي والعملياتي والأمني، حتى جاء إنجازه الأبرز والضربة الكبرى التي وجهها إلى الاحتلال صبيحة الـ 7 من أكتوبر 2023، والتي أصابت الكيان في مقتل وشلت قدراته، وأفقدته إمكانياته وأسقطت هيبة الردع التي طالما تباهى بها في ساعات قليلة.
“غيفارا الفلسطيني”
بين تفاصيل صورة السنوار شهيدا، دلالات كثيرة، تكرس الهزيمة المعنوية لكيان الاحتلال والأمنية والعسكرية، إذ إن الوصول إلى “المطلوب الأول إسرائيليا” بمحض الصدفة، وانسحاب عناصر القوة التي اشتبكت معه طوال ساعات، دون تمشيط البيت الذي كان يوجد به، يفرغ إنجاز الاحتلال المزعوم، من أي بعد استخباراتي أو عسكري، يمكن أن يتباهى به نتنياهو وجنرالاته.
لم تنجح المشاهد الدعائية التي بثتها قوات الاحتلال في محاولة لترميم انتصارها المزعوم، في وصم السنوار بأنه انتهى “وحيدا ملاحقا”، كما تباهى بذلك المتحدث باسم قوات الاحتلال أفيخاي أدرعي، بقدر ما وثقت لصورته متلثما بالكوفية الفلسطينية، وزيه العسكري، معفرا بغبار المعارك، لتخلق بذلك صورة ملحمية أقرب إلى “غيفارا الفلسطيني”، الذي حمل هم وطنه وأمته حتى الرصاصة الأخيرة.
في مواجهته للمسيرة، تلثم السنوار، لإدراكه مسبقا، أنها لو تمكنت من التقاط صورته وتحديد ملامحه، لسخّر الاحتلال كل قوته حتى يتم اعتقاله حيا مجردًا من ملابسه، وإخراجه مقيدا ذليلا في هيئة المهزوم “لا قدر الله”، بما يخدم غايات نتنياهو للتسويق لـ”نصره المؤزر” الذي يعد به الجبهة الداخلية.
تلثم السنوار ورمى المسيرة بعصاه، كي لا يعطي جنود العدو مجالاً للتفكير في أن يمطروه بالقذائف، وألا يضيعوا عليه شرف الموت مشتبكًا في رفح التي أشبعها الاحتلال قصفًا ونسفًا وتهجيرًا لسكانها، وسخر كل استخباراته فيها مدة 5 أشهر دون أي فائدة تذكر سوى الدمار.
بين مشهد البدايات والنهايات دلالات لا تخطئها العين، فصورة “استراحة المحارب” التي التقطها جالسا على أريكة وسط الركام في غزة في خضم العدوان على القطاع سنة 2021، بابتسامة واثقة ونظرة ثاقبة، كانت بمثابة إعلان تحد للكيان، وصولا إلى الأريكة التي توسدها جسده الطاهر عقب استشهاده، لتروي ما بينهما فصولا عابقة بالفخر والكرامة لمحارب تحول بعيْد ارتقائه إلى “أسطورة حية”.
لم يمنح “القائد المشتبك” الاحتلال نشوة التفوق والنصر الذي طالما سعى إليه، وارتقى كما أراد وخطط لنهاية تسرّ محبيه وتغيض أعدائه، مسقطا سرديتهم ومزاعمهم أنّه لا يتحرّك إلا محاطا بالحراس والأسرى الذين يتخذهم دروعا بشرية في أنفاق تحت الأرض.
حتى لحظة استشهاده، عجزت قوات الاحتلال وأجهزة الكيان الاستخباراتية والأمنية عن تحديد مكانه أو كيفية الوصول إليه، وما كانت لتكتشف صدفة هوية الملثم الذي قضى مشتبكا في الميدان، إلا بعد شكوك راودت جنود العدو، بعد ملاحظتهم تفاصيل وجهه وملامحه، ولولا ذلك، للبث نتنياهو طويلا في “العذاب المهين”.
ولعلها المشيئة الإلهية التي قضت بأن تكون “كرامة الشهيد القائد على يد قاتليه”، كما سيكون عمره قطعا أطول منهم، عبر نشر لحظاته الأخيرة، وصور جثمانه من قبل الاحتلال، بما يرفع مقامه، ويبرئه من شبهة الاختباء بين شعبه، تحت الأنفاق.
اكتشاف يسقط السرديات المتداولة
الاكتشاف الذي رافق استشهاد السنوار، وحقيقة وجوده على محاور القتال مشتبكا على بعد مئات الأمتار من محور فيلادلفيا، أسقط كل التكهنات والسيناريوهات السائدة على مدار الأشهر الماضية، والتي تحدثت عن إدارته لمركز قيادة وسيطرة في أعماق الأرض لمتابعة كل تفاصيل المعركة وشؤونها اليومية.
فجر هذا الاكتشاف كما حارقا من الأسئلة عن الجهة القائمة على إدارة معارك شرق رفح، وجباليا والشمال، والمسؤولين عن إطلاق الصواريخ يوم 7 أكتوبر الماضي، فضلا عن تأمين أكثر من 100 أسير “إسرائيلي”، وغيرها من التفاصيل التنظيمية المتعلقة بالعمل الإغاثي ومراكز الإيواء وبث الرسائل الإعلامية.
والثابت أن الإجابة عن جل هذه التساؤلات تصب في خانة واحدة وحقيقة ثابتة، مفادها أن “القائد المشتبك” اطمئن لترابط هياكل حماس التنظيمية والعسكرية، واستمرار عمل هيئة أركان القسام باقتدار كامل، والقدرة على ملئ شغور أي فراغ قيادي وتنظيمي.
وضع السنوار قواعد عمل واضحة، وسياسات متفق عليها، ليكمل نهجه مشتبكا ملتحما، فليس مثله من يهرب من العدو، أو يلقي بجنوده وسط المعركة ثم يغيب عنهم.
في روايته الشهيرة “الشوك والقرنفل” التي كتبها خلال سنوات المعتقل، استعار السنوار عبارة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطابه للمشركين، “والله لو لم أجد إلا الذرّ لقاتلتكم به”، فكان ذاك الاقتباس أبعد من مجرد استعارة مجازية أدبية، ليضحي نبوءة تجسدت في مشهدية شهادته، حين لم يجد إلا عصا يقاتل بها الاحتلال، وفعل!