محمد بشير ساسي
على مدار السنوات الماضية، حرّكت “روسيا الجديدة” المياه الراكدة في مراكز القرار بالولايات المتحدة الأمريكية، بعد بلورة “حاكم الكرملين” فلاديمير بوتين مشروع “إعادة الإمبراطورية الروسية”، الذي يدور في فلك إيديولوجيا يقف وراءها منظّران وفيلسوفان معاصران، هما ألكسندر دوغين وفلاديسلاف سوركوف.
التوازن الاستراتيجي
على أرض الواقع، أعادت موسكو التوسّع في فضائها التقليدي، مستهدفة -بالخصوص “جغرافيا”- جارتها أوكرانيا نقطة التماس الساخنة بينها وبين جبهة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تقوده واشنطن. بالتوازي مع ذلك عمدت روسيا الدخول على خط مصالح واشنطن بفرض “عقيدة التوازن الاستراتيجي” القائمة على استمالة عدة دول (من بينها حليفة للولايات المتحدة)، عبر استخدام أدواتها الدّبلوماسية التقليدية كالسلاح والغاز والطاقة النووية وبعض الأدوات الاقتصادية الأخرى.
توجّس الإدارة الأمريكية من هذه المخطّطات دفعها إلى التعامل بحزم مع الملف الروسي، في محاولة منها لعزل موسكو ونبذها بإشهار سلاح العقوبات في وجهها وفي وجه من والاها، أو حتى الذي صمت عن تدخّلها العسكري في أوكرانيا.
ويقول مراقبون إنّ الخطوة الروسية الأخيرة بضمّ أربع مناطق أوكرانية (زابوريجيا، خيرسون، دونيتسك، ولوغانسك)، جعل الولايات المتحدة تنتقل إلى تكتيك جديد في حملتها لإضعاف روسيا، عبر خنق حلفائها المرتبطين بها بشكل وثيق من حيث صفقات السلاح على غرار الجزائر.
رسائل إلى الجزائر
للمرة الثانية في أقلّ من شهرين، يوجّه مشرّعون أمريكيون رسائل إلى إدارة الرئيس جو بايدن، لمطالبته بفرض عقوبات ضدّ الجزائر طبقا لقانون مكافحة أعداء أمريكا المعروف بقانون “كاتسا” الذي أقرّه الكونغرس عام 2017، وهو موجّه لفرض عقوبات ضدّ الأفراد أو الكيانات والدول التي تنخرط في صفقات تشمل قطاعات الدفاع أو الاستخبارات الروسية.
الرسالة الأخيرة للمشرّعين الأمريكيين، أكّدت أنّ روسيا تُعدّ أكبر مورد للأسلحة العسكرية للجزائر. وفي العام الماضي وحده، وقّعت الجزائر صفقة شراء أسلحة مع روسيا، بلغت قيمتها الإجمالية أكثر من سبعة مليار دولار، وهي تصنَّف على أنها صفقة كبيرة بموجب قانون مكافحة “أعداء أمريكا”.
الموقف الرسمي الجزائري نأى بنفسه عن الردّ، لكن صنّاع القرار في البلاد على المستويين السياسي والعسكري، كانوا قد توقّعوا مسبقا مثل هذه الضغوط الأمريكية. ويُفهم هذا من خلال تصريحات مسؤولين أجمعت حول وجود علاقات مميّزة مع روسيا منذ ستين عاما ولا يمكن التضحية بها، لكن في الوقت ذاته أكّدوا أنّ الجزائر تتبنّى سياسة الحياد وتقف على مسافة واحدة من مختلف الأطراف.
وعلى الرغم من أنّ الخطاب المؤسّساتي الأمريكي يذهب في ظاهره إلى تقديم الجزائر في صورة الطرف المنحاز لصالح موسكو في غزوها الأراضي الأوكرانية، والترويج لسردية أنّ المشتريات الدفاعية الجارية بينهما تصبّ في صالح تدفّق الأموال إلى روسيا، ما يؤدي إلى زيادة دعم آلتها الحربية، فإن هناك باحثين في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، يتحدّثون عن ضغوط أمريكية في شكل رسائل مبطّنة مرتبطة بتحوّلات استراتيجية تتجاوز الصراع الراهن في أوكرانيا.
جسر نحو إفريقيا
وفق هذا المنطق، يبدو جليّا أنّ “واشنطن تحاول تحييد الجزائر ومنع موسكو المدفوعة بطموح كبير من الارتكاز عليها،
لتحتلّ موقعا متقدّما في شمال إفريقيا، وتعقد تحالفات مع دول
الساحل وإفريقيا الوسطى، مستغلّة النهم في التسليح والخوف من الفراغ الكبير في ظلّ تصاعد التهديدات الأمنية ومخاطر الجماعات المسلّحة، والذي بدا واضحا بعد التراجع الغربي في عدة مناطق لا طالما كانت مسرح نفوذ تاريخي لفرنسا.
كما يُنظر إلى الجزائر أيضا -وفق التصوّر الأمريكي- على كونها الجسر الاستراتيجي نحو الثروات الطبيعية الإفريقية، التي وجدت الشركات الروسية مجالا للتعاقد فيها على حساب الحلفاء التقليديين، وعبر الشركات التي يملكها مقرّبون من بوتين وتنشط في عدد كبير من الدول الإفريقية (السودان، ليبيا، إفريقيا الوسطى، مالي، والكونغو الديمقراطية).
زيادة على ذلك، استفادت روسيا من مجال الطاقة، حيث وقّعت شركة “روساتوم” للطاقة اتّفاقات مع 14 دولة إفريقية للتعاون في المجال النووي، الذي يمتدّ إلى قطاعات الطب والزراعة، ومنها صفقة بــ 76 مليار دولار مع دولة جنوب إفريقيا وحدها.
ضغوط التطبيع
مع كلّ هذه الاعتبارات الجيواستراتيجية، ثمّة دوافع ترتكز عليها مطالب أعضاء الكونغرس بمعاقبة الجزائر، أبرزها دور الأخيرة في قيادة جبهة عربية وإفريقية لمنع تمدّد التطبيع مع الكيان المحتلّ.
ويرى محلّلون أنّ هذه المحاولة ما هي إلا حلقة من حلقات الضغط على الجزائر للإذعان لاتّفاقيات أبراهام (التطبيعية)، وشوط من أشواط المساومة على مواقف العديد من الدول تجاه قضية الصحراء الغربية لإضعاف موقف الجزائر، وتعزيز الموقف المغربي في مقابل التطبيع الذي يُراد تعميمه على باقي دول المنطقة كتونس وليبيا.
إذن، مهما تعدّدت الدوافع والأسباب من وراء الرسائل الأمريكية، فعلى الجزائر التعامل معها بفكر “استباقي” بعيد عن أيّ صدامات مع الأمريكان، خصوصا في ظلّ ظرف دولي حاد التوتّر يتطلّب “يقظة وحكمة استراتيجيتين”.
فالعلاقة التاريخية بين روسيا والجزائر على الصعيدين السياسي والعسكري، ليست خافية عن الولايات المتحدة من قبل، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا غيّرت كثيرا من الأمور والحسابات ومنحت أعضاء محافظين في الكونغرس فرصة اللّعب على أوتار ملفات حساسة لا طالما تعتبرها الجزائر خطوطا حمراء لا تقبل المساومات.