عندما يضع المثقف الشأن العام تحت مجهر البحث والتقييم، ويحلل أبعاد الصورة من زواياها المختلفة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، فالأرجح أن مقاربته ستكون أشد قربا من الواقع، وغير منفصمة عنه، مجردةً من التزويق السياسي والشعاراتي الذي تسوقه السياسة.
لم تكن النخبة الثقافية في تونس مغيبةً ومستكينةً إلى التنظير اليوتوبي من برجها العاجي كما يهيئ للبعض، بقدر ما أجبرت إرهاصات ما بعد الرابع عشر من جانفي والتحولات التي اعقبته، كثيرًا من المثقفين على أخذ مسافةٍ من الساحة السياسية، لأن نسبةً هامةً منهم تجاهر بانتماءاتها الحزبية والإيديولوجية، مكتفيةً بالمتابعة والتركيز على الحقل الإبداعي والفكري والفني والإنتاج الأدبي.
بعد 10 سنواتٍ من الانتقال الديمقراطي، وثورة ما تزال شعاراتها عناوين للبيانات الحكومية المتعاقبة، وفي خضم أزمات سياسية متعاقبة وسيطرة سياسة المسكنات الموضعية لتهدئة الاحتقان الاجتماعي دون معالجةٍ معمقةٍ، يطرح الأديب والروائي، وأستاذ الجامعة التونسية شكري المبخوت مقاربةً للواقع العام، انطلاقًا من إعادة تكييف فلسفة المثقف العضوي ومفهومه، نحو استيعاب أبعاد المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في حوارٍ خص به جريدة الصباح اليومية الجمعة 2 أكتوبر، غادر المبخوت سياقات النثر والتجارب الأدبية المقارنة وحكايات “الطلياني” ليخطو تجاه المشهد التونسي بألغامه الاجتماعية وحالة “الغوغائية التي سيطرت على منصاته الإعلامية والعامة” بحسب تعبيره بديلاً “عن الحوار المتمدن” في محاولةٍ لتفكيك ملامح الخلل في الحالة الراهنة.
على أهلها جنت براقش
بعيداً عن توصيف الأزمة السياسية، وتحليل ميكانيزماتها على مستوى الأحزاب والبرلمان والمؤسسات السيادية، ينحو المبخوت نحو محاكمة التونسيين نخباً ومواطنين، نتيجة استغراقهم في “وهم الشعب المتمدن وصاحب الإرث الحضاري الممتد عبر 3000 سنة”، والذي كان صاحب الفضل في إطلاق شرارة الربيع العربي، إذ لم يخلف إلا مزيداً من استثمار السياسيين في الفساد وتسويق الأكاذيب، بلا برامج أو مشاريع، في مقابل تعمق الانتهازية وعقلية التواكل لدى قطاعات واسعة من المجتمع وفئاته، وانتظار الحلول الإعجازية من الدولة باسم الثورة.
واقع تسبب بتراكم الأزمات الاحتجاجية، وازدهار النزعات القبلية والعشائرية والجهوية، ما جعل التونسيين أشبه بمن يخربون بيوتهم بأيديهم، بعد أن أضحى تعطيل البترول في الكامور والفسفاط في قفصة أزماتٍ يوميةً مكررةً، وهو واقع يضاف إلى الوضع الاقتصادي و”حكومة الهواة” بما يشجع القوى الخارجية للدخول على خط الوصاية على البلاد.
ويرجع المبخوت استقالة كثير من المثقفين من الشأن العام، إلى محاولات لوبيات المال والسياسية تدجين الحقل الثقافي، ما أنتج واقعاً رديئاً وانهياراً للقيم وسقوطَ مفهوم الثقافة والمثقفين، نتيجة انخراط بعضهم في “أبواق التبرير والدعاية الفجة”، ما يدفع المبدع والمفكر والمثقف إلى القنوط واليأس.
صناعة الأمل
يرسم المبخوت خارطة الإصلاح وبناء واقع بديل، انطلاقاً من “تنظيف ما تراكم من عفن قبل الثورة”، حسب تعبيره، وفتح الملفات والمحاسبة الحقيقة لمن يستحق، بعيدًا عن الحسابات الحزبية أو الحصانة والغطاء التي تسبغها القوى الحامية له، وهو أمر يرتبط أساسا بتكريس الشفافية والاستقلالية، خاصةً ضمن المنظومة القضائية، “وطي صفحة قضاء التعليمات”، بما يصون الديمقراطية والحريات.
وفي تحليله لإخفاقات الانتقال الديمقراطي، يسلط المبخوت الضوء على ثلاثية القضاء والإعلام والأمن، والتي مثلت لسنواتٍ محور التجاذبات السياسية ومشاريع الإصلاح، مستشهدا بتوظيف عديد الملفات سياسيًا طوال السنوات الماضية، مثل الاغتيالات السياسية والجهاز السري، والقنوات الإذاعية والتلفزيونية العاملة دون ترخيص من الهايكا، وهي نتيجة حتمية للفشل في تحقيق إصلاح حقيقي، وتطهير هذه القطاعات وتحييدها، لتتحول إلى عنوان “للفساد المعمم القائم على تبييض الأموال والإرهاب والسرقة والتهريب”، وهو ما يتطلب مكاشفةً حقيقيةً تقوم على “التنظيف أمام بيوتنا وإلا فلننتظر انهيار السقف على الجميع”.