وجدي بن مسعود
يوافق الثالث والعشرون من أوت/أغسطس من كل عام، اليوم الدّولي لذكرى الاتّجار بالرقيق؛ وهو تاريخ يعيد إلى الأذهان نضالات الإنسانية في سبيل مكافحة ممارسات الاستعباد
مسار تحرّري طويل خاضه مئات المصلحين ورجالات التنوير خلال القرن الـ19، إعلاء لقيمة الحرية، وبدأت أولى خطواته عبر مرسوم إلغاء الرقّ في تونس سنة 1864، وتكلّل بإعلان تحرير العبيد في الولايات المتّحدة سنة 1865.
تحتفظ رفوف مكتبة جامعة هارفارد الأمريكية بنسخة أصليّة من “رسالة في منافع تحرير العبيد”، حرّرها الجنرال حسين ردّا على استفسارات القنصل الأمريكي أموس بري سنة 1862، بشأن تجربة تونس في مكافحة هذه الممارسة، وهو ما يكشف الدور الذي اضطلعت به تونس في “معركة تحرير العبيد بالولايات المتّحدة.
العبودية و الحرب الأهلية الأمريكية
في سبتمبر/أيلول 1862، أصدر الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن إعلانا مبدئيا لتحرير العبيد في الولايات المتّحدة، دخل بعدها، رسميّا، حيّز التنفيذ في جانفي/يناير 1863.
شكّل قرار لينكولن صاحب النزعة الإصلاحية والمعارض للاستعباد، بصمة ثورية كبرى في التاريخ الأمريكي المعاصر، كما غيّرَ مسار الحرب الأهلية المستعرة منذ عام 1861 بين الولايات الشمالية والجنوبية الساعية إلى الانفصال، بالنظر إلى “حساسية” قضية الرقيق في ولايات الجنوب ودورهم الحيوي على الصعيد الاقتصادي.
إعلان لينكولن كان كفيلا بتحويل تحرير العبيد من أحد محاور الخلاف السياسي بين الاتّحاديين والكونفدراليين الانفصاليين، إلى العنوان الأبرز للصراع العسكري الذي استمرّ 4 سنوات، والهدف الأسمى الذي خاضت الحكومة الاتّحادية الحرب في سبيله ليكون أوّل قرار يقع تعميمه وتنفيذه، رسميّا، في كامل البلاد عقب استسلام الانفصاليين نهائيا سنة 1865.
تُكرّس هذه التفاصيل التاريخية صورة ناصعة لشخصية إبراهام لينكولن المدافع عن قيمة الحرية. لكن المسكوت عنه بين ثنايا قصّة تحرير العبيد في أمريكا والذي لا يعلمه الكثيرون، يرتبط بدور تونس المباشر في دعم مساعي الرجل لإنهاء الرقّ في بلاده.
قضية سياسية معقدة
اكتست مسألة الرقّ أبعاد مركّبة ومعقّدة في تاريخ الولايات المتّحدة، لارتباطها بتوازنات سياسية وعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية، جعلت الجنوبيين الأكثر تشدّدا تجاه القضية والأكثر تمسّكا بالحفاظ على أكثر من 3 ملايين من العبيد المنحدرين من أصول إفريقية.
تسبّب انقسام المواقف في تكريس نظام قانوني متناقض وهجين بشأن الظاهرة. فرغم إلغائه في أغلب الولايات الشمالية التي كانت سبّاقة في تأسيس الولايات المتّحدة الأمريكية، إلا أن الحكومة الاتحادية اضطرت إلى تقنين الاستعباد ببعض مناطق الغرب والجنوب نوعا من الترضية السياسية لممثّليها في الكونغرس، خاصة أنها كانت ما تزال حديثة العهد بالاندماج في النظام الاتّحادي.
عقب صعوده إلى دفة الرئاسة سنة 1861، كان إنهاء العبودية على قائمة المشاريع الانتخابية والسياسية التي أطلقها لينكولن وعمل على تجسيدها.
اصطدمت مساعي الرئيس الأمريكي بعقبات داخل الكونغرس وانقسامات واسعة على مستوى الرأي العام الداخلي، ما دفعه إلى البحث والاستئناس بكل تجارب إلغاء الرقّ على المستوى السياسي والقانوني وكيفيّة تطبيقها.
التجربة التونسية ورسالة الجنرال حسين
كان قرار إلغاء الرقّ في تونس قد مضى عليه حينها أكثر من 17 عاما. وشكّل عند صدروه نموذجا رائدا على صعيد العالم، حتى أنه سبق عدة دول أوروبية في منع الاستعباد وتجريمه، على غرار فرنسا وبريطانيا، ما أثار اهتمام الرئيس لينكلن للتعرّف على التجربة التونسية التي قد تدعم جهوده في تحرير العبيد في بلاده.
أوفد لينكولن سفير الولايات المتّحدة عبر القنصل أموس بري، برسالة إلى الجنرال حسين أول رئيس لبلدية الحاضرة وأحد وجوه التيار الإصلاحي في تونس خلال القرن الـ19، طالبا تعريفه بتجربة تحرّر الرقّ في تونس ومنافعه.
حرّر الجنرال التونسي المصلح رسالة مطوّلة، سرد فيها تجربة تونس في إنهاء ظاهرة العبودية، مستشهدا بآيات من القرآن الكريم تدعم مبدأ تحرير “الرقاب”. كما ناقشت مفهوما فلسفيا واجتماعيا عميقا يتعلّق بمفهوم الحرية واعتبارها قيمة إنسانية، فضلا عن كونها أحد المقاصد الرئيسية للتشريع الذي يعتبر أن الأصل هو الحريّة لا الاستعباد.
رسالة الجنرال حسين تناولت جوانب اجتماعية واقتصادية من منافع تحرير العبيد، أبرزها مكافحة تفشي الكسل والتواكل والبطالة في صفوف الشباب، بسبب استفحال الاعتماد على الرقّ في شتّى القطاعات والمهن والمجالات، فضلا عن آثارها السلبية في الأخلاق والسلوك والعلاقات الإنسانية.
أُعجب لينكلن بالرسالة التونسية، فأمر بطبعها ونشرها على أوسع نطاق، كما نوقش مضمونها على أعمدة الصّحف الأمريكية، وهو ما أسهم في تعريف الأمريكيين بأحد أهم التجارب التقدّمية التنويرية في العالم الإسلامي، وأكسبت لينكولن زخما شعبيا مؤيّدا لمشروعه.