يرى مراقبون أنّ السياسة الخارجية التونسية التي لطالما أثبتت تاريخيا هدوءها واتزانها في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية، تبدو أنها فقدت ثوابتها التقليدية وأهمها تجنّب الاصطفاف وراء المحاور..
محمد بشير ساسي
تجمعُ عديد التّحليلات والبُحوث أنّ العالم المضطرب يقف أكثر من أيّ وقت مضى على أعتاب مرحلة حسّاسة تدور في فلك “أمواج تغيير عظيمة” على حدّ وصف الكاتب مارشال فاين سومر.
تغييرات عظيمة
ويبدو أنّ تلك “الأمواج العاتية” قد تشكّلت نتيجة تراكم مجموعة من التحديّات والمعضلات المعقّدة التي تتحكّم عدة أقطاب تنافسيّة في ديناميكياتها المتسارعة وغير المسبوقة في تاريخ البشرية التي تعتبر عتبة حرجة، وهي غير واعية بآثارها الخطيرة على الشعوب والدّول والعلاقات بين الأمم.
داخل فسيفساء هذا المشهد الدّولي المتغيّر بأسرع من خيال العلماء وتوقّعات المفكّرين والمحلّليين الإستراتيجيين، تعكف مراكز القرار في العديد من الدول العظمى على استشـراف “التغيّرات العظيمة” من أجل وضع الخُطط اللازمة لمواكبة تلك التطورات وتعزيز مكانتها الجيوستراتيجية والاقتصادية، والارتقاء بمستوى شعوبها، وتحقيق أعلى معايير ودرجات الرفاهية لها.
وفي الوقت الذي بات فيه التقدّم في مجال التفكير الإستراتيجي المستقبلي يمثّل مصدر قوة للقوى المتحكّمة في مفاصل العالم، يتساءل كثيرون عن نصيب الوطن العربي من هذه الرؤى؟ كيف يقرأ العرب حكومات وشعوبا الواقع وتفاصيله ومآلات المستقبل في وقت يدور فيه الحديث بقوة عن بدء تشكيل شرق أوسط جديد؟ هل هناك وعي جاد بأنه بقدر ما تغيب عن بنية تفكيرنا التقييمات الموضوعية بخصوص التحولات الجذرية من حولنا والتطوّرات التي ستطرأ في المنظورين القريب والبعيد، يزدادُ بؤسنا المعرفي لينعكس بصورة مباشرة على ترتيب أولوياتنا وتموقعاتنا ضمن خارطة مصالح متداخلة ومتشابكة تربط المناطق والأقاليم بالعالم على نحو براغماتي؟
فقدان الثوابت
قبل الإجابة عن جلّ هذه الأسئلة التي سنحاول حصرها في “التجربة التونسية”، هناك قاعدة أساسيّة يتوجّب البناء عليها وأخذها بعين الاعتبار لطرح أيٍ نقاشات حول هذه المسألة، وهي “الدبلوماسية النشطة” التي تتغذّى من الحوكمة الرشيدة والتخطيط الإستراتيجي، القادرة على استيعاب وفهم وتحليل والتأقلم مع التوازنات الجيوستراتيجية الإقليمية والعالمية.
في نظرة عامة للحصاد الدبلوماسي التونسي يعتقد مراقبون أنّ السياسة الخارجية التونسية التي لطالما أثبتت تاريخيا هدوءها واتزانها في التعامل والتفاعل مع القضايا الإقليمية والدولية، تبدو خلال السنوات الماضية قد فقدت عددا من الثوابت التقليدية وأهمها تجنّب الاصطفاف وراء المحاور..
وعلى الرغم من ترويج البعض على غرار وزير الخارجية السابق نبيل عمّار بأن الدبلوماسية في عهد الرئيس قيس سعيّد، قد استعادت بريقها بفضل طابعها النضالي والعقلاني الرصين وهي لا تتقاطع مع الانفتاح على جميع الدول، فإنّ الواقع يبدو مغايرا برأي محلّلين للمشهد التونسي،حيث باتت السياسة الخارجية والدبلوماسية التونسية (التي هي من المفترض أن تكون خط الدفاع الأول عن مصالح تونس والتونسيين)، تتّسم تارة بالتشنّج والصِّدام وطورا بالسير نحو استبدال علاقات تونس التاريخية بعلاقات ومحاور جديدة..
شبه عزلة
في نظر العديد من المتابعين للشأن التونسي، ظلّ الرئيس سعيّد الذي رفع شعار “تونس ربحت ورقة المستقبل” واعدا بالبناء والتشييد والوصول إلى العلو الشاهق، يردّد في كل مناسبة بأنّ بلاده لن تقبل الدروس من أحد، وأنه لا وصاية لأحد عليها، مؤكّدا أنها تتعامل مع القضايا والملفات المطروحة وفق القيم والمقاييس الأخلاقية والبراغماتية الذكية، بينما الحقائق تشير إلى أنّ النظام السياسي لم يستثمر في العالم الخارجي ليُدخلَ البلد في شبه عزلة دولية غير معلنة كما يصفها معارضوه ومناصروه على حدّ سواء.
1- العلاقات مع المغرب العربي:
– أثار التكتّل الثلاثي بين تونس والجزائر وليبيا جدلا واسعا لكونه برأي متابعين محاولة لبعث اتحاد مغاربي جديد داخل منطقة بلغ فيها التنافس السياسي والإستراتيجي والخلاف الدبلوماسي حدودا كبيرة خاصة بين الجزائر والمغرب وداخل ليبيا نفسها، والتي ما تزال تعيش على وقع انقسام سياسي حادّ ما بين حكومة في الغرب وأخرى في الشرق.
وقد فسّر مراقبون أنه بصرف النظر عما يعنيه هذا التكتل من توحيد المواقف في التعاطي مع الدول المعنية بظاهرة الهجرة غير النظامية في البحر المتوسط، وتنسيق العمل لدفع المشاريع والاستثمارات المشتركة في الطاقة والفلاحة وفتح خط بحري بين البلدان الثلاثة وتسهيل حركة الأشخاص والسلع وتنمية المناطق الحدودية بينها، فإنه سمّم العلاقة مع المغرب الضلع المهم في الكيان المغاربي المعطّل منذ 1994 إلى جانب الطرف الخامس موريتانيا.
كما توتّرت العلاقة بين تونس والمغرب بسبب استقبال الرئيس سعيّد زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي في 26 أوت 2022 بالمطار الرئاسي، بمناسبة مشاركته في الدورة الثامنة لندوة طوكيو الدولية للتنمية في إفريقيا، وهو ما اعتبرته الرباط آنذاك عملا خطيرا وغير مسبوق، يسيء بشكل عميق إلى مشاعر الشعب المغربي، وقواه الحية.
– تسبّب تصريح وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي في ردود فعل غاضبة في ليبيا بعدما تحدّث عن إعادة ترسيم الحدود معها، مشدّدا على أنّ بلاده لن تسمح بالتفريط في أيّ شبر من التراب الوطني، في المقابل ردّ الطرف الليبي بتأكيد أنّ ملف ترسيم الحدود الليبية التونسية قد أغلق بشكل كامل منذ أكثر من عقد من الزمن، من خلال لجنة مشتركة بين البلدين، وأصبح منذ ذلك الحين ملفا مستقرا وثابتا وغير مطروح للنقاش أو إعادة النظر”.
2- العلاقات مع العالم العربي:
– ربما لا ينسى كثيرون كيف عبّر الرئيس التونسي قيس سعيّد عن دعمه الرئيس السوري الهارب بشار الأسد في ذروة حرب التحرير التي قادتها الفصائل المسلحة، فقبل 4 أيام فقط من سقوطه وتحرير العاصمة دمشق، عبّر نظام سعيّد عن إدانته الشديدة لما اعتبرها “الهجمات الإرهابية” التي استهدفت شمال سوريا، معلنا تضامنه مع النظام السوري، داعيا المجموعة الدولية إلى مساندة هذا البلد الشقيق، حتى يحافظ على سيادته وأمن شعبه واستقراره ووحدة أراضيه.
وفي تناغم الموقف التونسي من مجريات الأحداث في سوريا مع نظيريه الجزائري والليبي حين سقط نظام الأسد، دعا إلى “ضرورة تأمين سلامة الشعب السوري والحفاظ على الدولة السورية دولة موحّدة كاملة السيادة بما يحميها من خطر الفوضى والتفتيت والاحتلال”.
لكن في الوقت الذي تسارع دول عربية وحتى غربية عديدة لمدّ قنوات الاتصال مع ما بات يُعرف بالإدارة السورية الجديدة، ما زالت تونس تلزم الصمت حيال من يحكمون دمشق.
ورغم أنّ التطورات الأخيرة في سوريا باتت من المواضيع الرئيسية التي تشغل الأوساط السياسية والإعلامية وحتى الشعبية في تونس، خصوصا مع ارتفاع وتيرة الحديث عن المخاوف من عودة المقاتلين التونسيين من هناك، لا موقف رسميّا بعد.
– ترويج عدّة أوساط وأطراف أنّ الجزائر تمارس نوعا من الوصاية على علاقات تونس بدول الخليج التي لم تنجح في استمالتها لتغيير موقفها من ملف الصحراء الغربية، خاصة بعد تأكيد مجلس التعاون الخليجي في أكتوبر 2024 بالكويت بأن قراراته ثابتة بشأن مغربية الصحراء وأمنه.
– عدم حضور الرئيس التونسي قيس سعيّد القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية التي عقدت في العاصمة السعودية الرياض في نوفمبر 2024، مكلّفا وزير الخارجية وزير الشؤون الخارجية، محمد علي النفطي بترؤّس الوفد التونسي، وهذه هي المرة الثانية التي لم يشارك فيها سعيّد في أعمال قمة من هذا النوع، التي ركّزت وقتها على الحربين في غزة ولبنان.
– خلال مشاركته في الدورة الـ32 لقمة جامعة الدول العربية في جدة في ماي 2023، لم يلق خطاب الرئيس التونسي صدى واسعا كما يعتقد مراقبون، حيث إنه عبّر عن موقف مخالف لما هو عليه الحال في العالم العربي، منتقدا محاولات إقامة نظام عالمي جديد، في الوقت الذي بدأت فيه بعض الدول العربية في تكوين تحالفات جديدة.
ولم يمنعه ذلك من التعبير عن التمنيات بالسلام وحلّ النزاع باستحضار ملفات ليبيا واليمن والسودان، مع ترحيبه وقتها بعودة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية، فيما كانت تونس من أول الدول العربية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.
3- العلاقات مع إفريقيا:
بعد تصريحات الرئيس التونسي عن تدفّق “جحافل” من المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، معتبرا أنّ ذلك مصدر “عنف وجرائم” وجزء من “ترتيب إجرامي” يهدف إلى “تغيير التركيبة الديموغرافية لتونس ثم تراجعه عنها إثر انتقادات حقوقية ودولية، أبرزها بيان مفوضية الاتحاد الإفريقي، تجد الحكومة التونسية نفسها أمام تحدّي تنقية الأجواء وإعادة الانتشار الدبلوماسي في القارة السمراء بهدف إعطاء شراكاتها نفسا جديدا لإنعاش اقتصادها المتعثر، ومعالجة مشاكل الاستثمار، في وقت تتعالى فيه الأصوات المنادية بتوسيع دائرة العلاقات الدبلوماسية بعيدا عن الشركاء التقليديين مثل الاتحاد الأوروبي.
وكشف وزير الخارجية التونسي خلال إحدى الجلسات العامة بالبرلمان، مخصّصة لمناقشة ميزانية مهمة وزارته، أنّ الانتشار الدبلوماسي التونسي يعتمد على 60 سفارة موزعة في أنحاء العالم كافة”.
وأوضح النفطي أنّ من بين هذه السفارات 18 سفارة في العالم العربي و22 في أوروبا و7 في آسيا و5 في أمريكا و10 في إفريقيا جنوب الصحراء موزعة على 48 دولة، إضافة إلى 23 ما بين قنصليات وقنصليات عامة”.
وما يزال حجم التجارة التونسية مع دول إفريقيا أضعف من حجم التجارة الخارجية للبلاد سنويا، بينما تبلغ أكثر من 50% مع دول أوروبا، وفق أرقام مركز النهوض بالصادرات.
وتراهن تونس على إعطاء شراكاتها مع قارة إفريقيا جرعة تحفيز جديدة لإنعاش اقتصادها المتعثّر ومعالجة مشاكل الاستثمار، التي تواجه المشاريع في فترة يتّسم فيها الاقتصاد العالمي بالكثير من التقلّبات بفعل انعكاسات التوتّرات السياسية والتغيّرات المناخية.
ويعمل المسؤولون لطيّ صفحة الخمول في تنمية الاستثمارات لاستغلال موقع تونس الإستراتيجي في القارة على النحو الأمثل لمنافسة المغرب، بهدف الدخول في أسواق دول وسط إفريقيا وجنوبها وعدم الاقتصار على الشريك التقليدي الاتحاد الأوروبي.
وشهدت قيمة مبادلات الطرفين تطورا حسب أرقام حكومية حيث تجاوزت 650 مليون دولار العام قبل الماضي، وهو ما يعكس توجّها لتعزيز التعاون المشترك ورفع قيمة تبادل السلع بعدما كشفت الدولة في 2017 أنها تريد أن يبلغ سنويا المليار دولار.
4- العلاقات مع الغرب والشرق:
– تشهد علاقات تونس مع أوروبا توتّرًا بسبب خلافات أيديولوجية واقتصادية وهيكلية، تجلّت في تعليقات وزير الخارجية التونسي السابق نبيل عمار، الذي انتقد الاتحاد الأوروبي على خلفية “الشعور بالتفوق الذي يعاني منه”.
أدّى الاستياء المتزايد في تونس من السياسات الأوروبية، والذي تفاقم من جراء قضايا مثل أزمة الهجرة، إلى تصعيد التوتّرات وتسليط الضوء على الحاجة الماسة إلى فهم علاقات تونس الخارجية المتطورة وسعيها إلى تنويع تحالفاتها، وقد نتج من توتّر هذه العلاقات سيناريو أدى فيه اعتماد الاتحاد الأوروبي على تونس لإدارة الهجرة إلى منح رئيسها قوة تفاوضية كبيرة.
وحسب ما أورده غازي بن أحمد، مؤسس ورئيس مبادرة تنمية البحر المتوسط في تقرير نشره معهد واشنطن، تعني هذه القوة ضمنًا أنّ الاتحاد الأوروبي قد يكون ميّالا إلى التغاضي عن ممارسات الحكم الخاطئة وتجاهل المطالبات بالإصلاحات الاقتصادية، مقابل التعاون المستمر بشأن قضايا الهجرة.
– لا يخفي مسؤولو الاتحاد الأوروبي انزعاجهم من توجّه تونس نحو الشرق لعقد تحالفات تمزج بين الجانبين الاقتصادي والسياسي، ورغم أنّ محلّلين يعتقدون أنّ هذا التقارب ضرورة أملتها الأزمة المالية التي تعيشها البلاد فإنّ آخرين يستبعدون انسلاخها عن شريكها الأوروبي.
ففي تعليقه إزاء تقارب تونس مع روسيا والصين وإيران خلال اجتماع مجلس الشؤون الخارجية الأوروبي في ماي الماضي، اعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل هذه الخطوة بمثابة “تطور مثير للقلق”.
ومنذ صعود الرئيس سعيّد إلى سدة الحكم في خريف 2019 لم يتوانَ لحظة واحدة عن توجيه رسائل مباشرة إلى الغرب -تحديدا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة- بعدم التدخّل في شؤون بلاده واحترام سيادتها، بسبب انتقادات موجهة له تتعلق بـ”الانفراد بالحكم”.
ويفسّر هذا التقارب برفض السلطة في تونس ما تعتبرها ضغوطا من الغرب وشروطا تمس سيادتها، بالإضافة إلى سعيها إلى تنويع شركائها الاقتصاديين في ظل الأزمة المالية التي تشهدها البلاد وتعثّر حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي.
وفشلت المفاوضات بين تونس والصندوق للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار على 4 سنوات كان سيفتح الباب أمام حصولها على تمويلات دولية أخرى بنسب فائدة أقل بكثير من السوق المالية العالمية، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة مالية.
وكان موقف الرئيس سعيّد الرافض شروط صندوق النقد -خاصة المتعلقة بإلغاء الدعم الحكومي عن السلع- أحد أسباب تعثّر المحادثات، في حين تواجه تونس تحدّيا كبيرا العام الجاري للاستدانة بالعملة الأجنبية من الداخل أو الخارج لتوريد السلع وإنهاء ديونها.
– تتّسم علاقة الاتحاد الأوروبي بسعيّد بالفتور، بسبب امتناع تونس عن التصويت في أفريل 2022 على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، بسبب حربها على أوكرانيا.
واعتبر مراقبون أنّ “موقف الحياد الذي اتخذته تونس من الحرب في أوكرانيا عزّز منذ ذلك الوقت الانطباع لدى الأوروبيين بأن تونس منفصلة عن الحقائق الإقليمية والجيوسياسية”، وأنّ “الدولة لم تعد تتّخذ مواقف واضحة ومعلنة بشأن النقاشات الدولية الكبرى وما تزال أصواتها في الهيئات الدولية غير مفسرة”.
– قلق غربي من وجود اختراق عسكري روسي لتونس خاصة بعد كشف تقارير إعلامية أوروبية عن هبوط طائرات روسية في جزيرة جربة القريبة من الحدود مع ليبيا، وطرحت هذه المسألة أسئلة عديدة، هل أصبح مطار جربة، الملاذ السياحي الواقع في جنوب شرق تونس، مسرحا لتحرّكات جوية روسية غير عادية في الآونة الأخيرة؟
وأثار هذا السؤال بعض التوتّر في صفوف مراقبي التوازنات الإستراتيجية الإقليمية، وبالتالي تم ربط هذه التحركات الجيوسياسية التي يقوم بها الكرملين في تونس وليبيا والجزائر ومنطقة الساحل، بكونها مناورة معقّدة من أجل تعزيز النفوذ في المنطقة بعد أن خسرت موسكو موقعها في سوريا والشرق الأوسط عموما بعد الإطاحة بنظام الأسد.
– منذ زيارة سعيّد الرسمية للصين في ماي 2024، أُعلن عن إقامة شراكة إستراتيجية بين تونس والصين لدعم “التنسيق حول عديد المسائل الإقليمية والدولية المشتركة”. وكانت العملاق الآسيوي الشريك التجاري الرابع لتونس بعد كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، بحوالي 6 مليار دولار، قد أبدى منذ سنوات اهتماما بالسوق التونسية عندما أضاف البلد المغاربي في 2018 إلى “مبادرة الحزام والطريق”، وشهدت فترة حكم سعيّد توقيع عدد جديد من عقود البناء، كعقدي تشييد جسر بنزرت وبناء محطة الطاقة الشمسية بالسبيخة.
– في ضوء تقييم مزايا تحالفاتها طويلة الأمد مع الدول الغربية في مقابل الآفاق المغرية لتعميق العلاقات مع القوى الشرقية، وخاصة روسيا والصين، لم تبلور الولايات المتحدة بعد موقفا نهائيا بشأن التعامل مع دول مثل تونس، حيث تتجلّى المشاعر المعادية للغرب بشكل متزايد، ما يثير تساؤلات مهمة حول النهج الإستراتيجي الذي تتّبعه واشنطن في منطقة عالقة بين الانتماءات التاريخية وإغراء الشراكات الجديدة.
وتمثل تونس، بموقعها الجيوسياسي الإستراتيجي، رمزا لهذا التحول. ويعكس توجّهها إعادة تقييم أوسع نطاقا للتحالفات العالمية بسبب خيبة الأمل المتزايدة إزاء الارتباطات التقليدية مع الدول الغربية إلى جانب مزيج من الطموحات الاقتصادية والاعتبارات الأمنية.
ويمثّل هذا خروجا عميقا عن التزامات تونس، مما يشير إلى أنها على وشك إعادة تنظيم جيوسياسي وليست مجرد مشارك سلبي في النظام العالمي. ويعكس هذا الوضع الدقيق في تونس التعقيدات الأوسع للسياسة العالمية الحالية، وخاصة الخطاب المستمر حول دور الولايات المتحدة وبنية النظام الدولي.
ولا توضّح الحرب في أوكرانيا التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة في تشكيل تحالف عالمي موحّد فحسب، بل جسّدت أيضا النهج الحذر الذي تتبّعه دول “الجنوب العالمي”، التي تعمل على موازنة تحالفاتها إستراتيجيا وسط الجغرافيا السياسية العالمية المتغيرة.
رغم ذلك تؤكّد تونس التي تربطها علاقات دبلوماسية مع واشنطن تعود إلى أكثر من 200 سنة، أنها “تتطلّع إلى دعم العلاقات معها في شتّى المجالات، حيث تشير إحصائيات رسمية إلى أنّ حجم المبادلات التجارية بين البلدين فاق مليارا و300 مليون دولار في عام 2023، لتحلّ الولايات المتحدة في الرتبة الخامسة ضمن قائمة المستثمرين في تونس بالعام نفسه بقيمة تناهز 18.5 مليون دولار.
بخصوص التعاون الأمني والعسكري فقد أخذ نسقا تصاعديا وخاصة منذ منح واشنطن تونس في 2015 صفة “حليف أساسي خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)”، وذلك في إطار تعزيز التعاون العسكري لمحاربة الإرهاب.
ثم جاءت استضافة تونس لفعاليات التمرين البحري فينكيس إكسبرس 24، بقيادة أمريكية في نوفمبر 2024 ليؤكّد هذه الشراكة.
وحسب معطيات صادرة عن السفارة الأمريكية بتونس، فإنّ المساعدات العسكرية والأمنية التي قدّمتها الولايات المتحدة لتونس سنة 2023، بلغت قيمتها 160 مليون دولار، كما ساعدت على إنشاء مركز تكوين بمحافظة بنزرت (شمال) وقيمته في حدود 20 مليون دولار، فضلا عن تقديم ما قيمته 110 ملايين دولار للقوات المسلحة التونسية في شكل مراكب بحرية طولها 65 قدما، بالإضافة إلى 6 طائرات شحن.
عموما من الذكاء السياسي والحكمة الدبلوماسية أن يسير بلد مثل تونس على طريق تنويع علاقاته الخارجية وشراكاته، وهي إستراتيجية مطلوبة في عالم متقلّب المناخات ومتغيّر التحالفات. ومن يقرأ جيّدا تاريخ تونس منذ الاستقلال يرصد تجنّبها التجاذبات الكبرى وحفاظها إلى أقصى حدّ ممكن على مبدإ عدم الانحياز، وإذا كان اللعب على التناقضات وإحداث تحول في العلاقات أمرا مهم في السياسات الخارجية للدول، فالأهم هو حسن قراءة التوازنات والقدرة على إدراك التفاصيل والجزئيات واستغلالها لفائدة تونس وليس ضد مصالحها الإقليمية والدولية على حدّ سواء.