ثقافة

الخط القيرواني…من الكوفة إلى اليونسكو

وجدي بن مسعود 


 لم تقتصر منافسة القيروان، أولى حواضر الإسلام في إفريقية وبلاد المغرب نظيراتها في المشرق على العلوم والطب والشعر، بل شملت كذلك الخط العربي الذي عد لقرون حكرا على مدائن العراق والشام والجزيرة العربية.

يعرف بعض المتبحرين في أسرار الخط العربي هذا الفن بأنه “السهل الممتنع” لما يتطلبه التمكن من أساسياته والإلمام بصنائعه من مهارة وموهبة وحرفة وإتقان.

وللقيروان في الخط العربي مكانة ومدرسة ومذهب اشتهرت به منذ قرون، عابقا بالأصالة ومجللا بالإبداع وموسوما بروح وهوية تونسية متأصلة في تقاليد الكتابة وفنونها.

يمثل الخط القيرواني امتدادا على مستوى الأساليب الفنية والجمالية لمدرسة الكوفة الشهيرة بطابعها الهندسي المبهر الذي كان من بين أوائل المناهج في الخط العربي.

أسهم خطاطو الكوفة وسائر أمصار العراق، خاصة على صعيد تدوين القرآن في ذيوع شهرة أسلوبهم، ما جعل الكوفي، الخط الأكثر انتشارا في إفريقية بعد فتحها، إذ تركز استعماله في المصاحف والفنون الإسلامية، رغم صعوبة أسلوبه وما يتطلبه من دقة شديدة وإلمام بتقنيات الهندسة في رسم الحروف وقواعد الزوايا والنقاط. 

تلقف الخطاطون في القيروان التي كانت في أوج ازدهارها الحضاري والعلمي خاصة خلال الحقبة العباسية والأغلبية، المنهج الكوفي وعملوا على الإضافة إليه وتطويره بلمساتهم وأسلوبهم الخاص وإدخال عدة تحسينات على معايير رسم الحروف ومقاييسها، إلى جانب أدوات الكتابة، حيث أدخلوا أقلام القصب المعتمدة في رسم الخطوط اللينة، ما أسهم في تكريس المنهج القيرواني كمدرسة مستقلة متمايزة وأسلوب مختلف قائم بذاته عن الخط الكوفي.

 يُجمع قدماء المؤرخين على أن  “القيرواني” أكثر من مجرد كنية للدلالة بل علامة مسجلة  دالة على التميز. 

وبهذه الدلالة والمقياس كان الخط القيرواني آية جمالية وبصرية جمعت بين ميزات الخطوط اللينة وهندسة الكتابة الكوفية وإبداعها.

القيرواني…خط لين بعكس الكوفي

ويتحدث الخطاط التونسي فرج إبراهيم لبوابة تونس عن خصوصيات الخط القيرواني الذي يصنف ضمن الخطوط اللينة بعكس الخط الكوفي المعروف باعتباره من الخطوط اليابسة .

ويتفرد القيرواني برسمه بأقلام القصب، رغم اعتماده على الطابع والمعايير الهندسية في رسم الحروف، كما يتفوق على سائر الخطوط الأخرى بميزاته الفنية والجمالية التي تكمن بشكل أساسي في الانتقال السلس بين الحركات الغليظة والرقيقة وعدم الالتزام بقاعدة التنقيط .

“لا يخضع الخط القيرواني إلى قاعدة الدائرة المميزة كسائر الخطوط اللينة، بل يعتمد أسلوبا مستحدثا بالنسبة إلى شكل المثلث في تقريب جل حروفه” يضيف الخطاط التونسي في حديثه عن خصوصيات هذه المدرسة التونسية.   

ازدهر الخط القيرواني كأسلوب فني مستقل بذاته وبلغت ذروة انتشاره في القرن السابع في سائر بلاد إفريقية والمغرب، إذ ينسب أغلب الباحثين الفضل في توطيد أركان هذه المدرسة وقواعدها الأساسية ونمطها الجمالي وميزاتها البصرية إلى أحمد بن علي الوراق الذي يعد من بين أشهر خطاطي المدرسة القيروانية التونسية.

أسهم أحمد ابن علي في تجويد الخط القيرواني ودون بأسلوبه المتفرد عديد المصاحف والمخطوطات، فيما يظل مصحف الحاضنة أشهر أعماله التي بلغ صيتها مختلف أرجاء العالم وحظيت بشهرة واسعة في المحافل الأكاديمية والفنية المهتمة بالخط العربي. 

دون أحمد بن علي مصحف الحاضنة سنة 1020 ميلادية خلال فترة حكم المعز بن باديس الصنهاجي واشتهر بخلفيته الزرقاء ما جعله تحفة فنية وأثرا يؤرخ للعقود الأخيرة من الحقبة الذهبية للقيروان.

بدأت مكانة الخط القيرواني في التراجع منذ القرن ال 15 ميلاديا، خاصة مع ازدهار مدرسة الخط الأندلسي الذي انتشر انتشارا واسعا في الحواضر الكبرى لتونس ووظف في المناهج التعليمية والفنون والتدوين. 

يشير فتحي عبد الجواد مدير المركز الوطني لفنون الخط بتونس في حديثه لبوابة تونس إلى الجهود التي بذلها المركز طوال سنوات لإحياء الخط القيرواني من خلال دراسات معمقة وبحوث عديدة في أبرز آثاره والمخطوطات التي كتبت بهذا الخط.

بحسل الأستاذ عبد الجواد، بذلت جهود علمية واسعة لإعادة الاعتبار إلى الخط القيرواني من خلال نخبة من الخطاطين التونسيين المعاصرين الذين عملوا على إعادة استحضار فنياته وأساليبه ومناهجه، إضافة إلى رقمنته.

ومن المنتظر أن يُدرج الخط القيرواني ضمن قائمة التراث العالمي اللامادي المعتمدة رسميا من قبل منظمة اليونسكو، تتويجا لجهود إحياء هذه المدرسة التونسية الأصيلة وذلك بعد إدراجه في مارس الماضي ضمن ملف عربي مشترك ساهمت تونس في إعداده إلى جانب 12 دولة عربية أخرى، بهدف تسجيل الخط العربي بمختلف أنماطه ومناهجه ومدارسه كتراث إنساني وعالمي.