وجدي بن مسعود
على مدار السنوات العشر التي تلت الثورة التونسية، أصبحت الزيارة السنوية لكنيس “الغريبة” اليهودي في جزيرة جربة منطلقا لتجدد النقاشات في الفضاءات الإعلامية والسياسية، وكذلك الأوساط الشعبية بشأن قضية التطبيع مع إسرائيل وكذلك المس من السيادة الوطنية، وما يرافقها من شبهات “تسلل الصهاينة إلى تونس تحت غطاء السياحة الدينية”.
وليس من المبالغة في شيء القول إن شهر ماي/مايو الذي يشهد فعاليات الحج اليهودي إلى “الغريبة”، أضحى عنونا قارا لما يمكن أن نطلق عليه مصطلح “موسم الجدل والسجالات”، التي ما فتئت تراوح ما بين هواجس التطبيع والحق في ممارسة الشعائر الدينية. وهذا العام يتزامن موسم الحج الذي ينطلق الأربعاء 18 ماي/مايو مع مرور أسبوع بالضبط على اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة برصاص جيش الاحتلال في جنين.
الحج إلى أقدم كنيس يهودي في أفريقيا، من الشعائر المقدسة التي تحميها تونس ويواكبها كل عام يهود جزيرة جربة التونسية وتحضرها وفود يهودية قادمة من أصقاع العالم، لكن بعد انطلاق قطار التطبيع العلني في المنطقة العربية بات التحذير من التطبيع باستغلال موسم الحج أكثر حضورا.
احترام التعددية الدينية من جهة والتخوف من التطبيع بأي شكل من جهة ثانية، ثنائية ملغومة بإشكاليات قانونية وحقوقية وسياسية وأخلاقية، أججت مساحة الصراع بين لوبيات سياسية واقتصادية تعمل على تنزيل المناسبة في إطار سياحي بحت، والترويج لها لأنها رمز التعايش الديني الممكن و”لقاء الحضارات على أرض تونس”. في المقابل تخوض فعاليات شعبية ومنظمات وأحزاب حربا بلا هوادة ضد محاولات التغلغل الصهيوني، وتمرير أجندات التطبيع التي تقول إنها “ترافق زيارة الغريبة، والتي باتت معالمها مكشوفة ومعلنة وسافرة في السنوات الأخيرة حسب متابعين للشأن التونسي “.
فكيف تضمن تونس حرية القيام بالشعائر الدينية واحترام التعددية وفي الوقت ذاته تخرج سالمة من الزج بها في أتون التطبيع، بعد تداول أنباء عن رحلات سياحية منظمة بين تل ابيب وتونس بحجة موسم الحج إلى الغريبة ومزارات يهودية أخرى في تونس؟

من التطبيع السري إلى التطبيع السياحي
موسم “الغريبة” الذي شكل في سنوات الديكتاتورية أحد أدوات التطبيع السري الذي مارسه نظام بن علي، يقول مراقبون لكنه “تحول بعد سنة 2011 إلى أرضية ارتكاز يعتمد عليها الاحتلال الإسرائيلي، لاختراق النسيج الوطني من وجهة نظر القوى الوطنية المناهضة للتطبيع في تونس” وفق بعض الجهات التي اتصلت بها بوابة تونس.
ويقول مراقبون لبوابة تونس إن استغلال الكنيس للتطبيع تؤكدها الدعاية الإعلامية التي تحيط بفعاليات زيارة “الغريبة”، بما تتضمنه من تركيز على الأصول التونسية للصهاينة الوافدين من فلسطين المحتلة، وإبراز “ارتباطهم بوطنهم الأم تونس”، واللعب على وتر التعاطف الشعبي، والتي تطورت لاحقا إلى دعوات لمنحهم الجنسية التونسية رغم إنهم محتلون بل بعضهم كانوا جنودا في جيش الاحتلال كون الخدمة العسكرية إجبارية في إسرائيل.
تحذيرات من المقاربة المغلوطة
في حديث لبوابة تونس، يرى الباحث الأكاديمي بمركز باب المغاربة والمتخصص في الإسرائيليات صلاح الداودي، أن تنزيل النقاشات المتعلقة بالأجندات المرتبطة بزيارة “الغريبة” ضمن ثنائية التطبيع وحرية المعتقد هي محاولة لتزييف المقاربة الحقيقية للموضوع، والقائمة على التفريق بين الموالين للعدو الصهيوني ومن ينتمون إليه، وبين اليهود سواء التونسيين أو القادمين من مختلف أرجاء العالم، والذين لا تخرج المسألة بالنسبة إليهم عن سياق ديني شعائري.
ويعتبر صلاح أن حسم هذا النقاش المفتعل يكون بمنع كل من يثبت انتماؤه إلى كيان الاحتلال والدفاع عنه والترويج لسياساته من الدخول إلى تونس، “لا بعنوان الدين ولا الثقافة أو السياحة أو أي عناوين أخرى”، حسب قوله.
ويلفت الداودي في هذا السياق، إلى صعوبة محاصرة ما وصفها بـ”الأدوات الالتفافية” التي يعتمدها العشرات من الصهاينة للدخول إلى تونس خلال هذه المناسبات عبر استعمال جوازات سفر أوروبية وغربية. ويقول لبوابة تونس: “لهذا السبب فإن كل من يثبت لدى الأجهزة الأمنية والمختصة أنه يحمل الجنسية الإسرائيلية، يجب منعه من دخول تونس مهما كان الجواز الذي يحمله، باعتباره تهديدا صريحا للأمن القومي”.
محاسبة المسؤولين عن جرائم التطبيع
وطالب الباحث بمركز باب المغاربة السلطات التونسية بسحب الجنسية التونسية من عدد من الصهاينة المستوطنين بالأرض المحتلة، مؤكدا لبوابة تونس أن بعض الناشطين في مقاومة التطبيع رصدوا حضور بعضهم إلى جربة بمناسبة موسم الغريبة بجوازات سفر تونسية، مرجحا أنها صادرة عن بعض سفاراتنا في العواصم الأوروبية.
واعتبر صلاح الداودي أن السلطة السياسية مطالبة بتقديم موقف واضح وحاسم تجاه مسألة التطبيع بعيدا عن الشعارات التي يرددها رئيس الجمهورية قيس سعيد، وبالتالي إقرار إجراءات تقطع مع المحاولات المتكررة للتطبيع والتي تواترت في السنوات الماضية، فضلا عن محاسبة المسؤولين الذين كانوا في السلطة وساهموا في الجرائم التطبيعية.
وأضاف محدثنا: “في كل جريمة تطبيعية وقع الكشف عنها طالبنا بمحاسبة المسؤولين، ولكن لم يقع تتبع أي منهم لأن الرئيس سعيد لم يتخذ حتى الآن سياسات واضحة تتعلق بالقضية”.
أدوات ضغط وهمية
مساعي الأيادي الصهيونية لا تتوقف عند اختراق النسيج الاجتماعي والاقتصادي، بل تعمل على نهب التراث اليهودي في تونس بما يمثله من أهمية للذاكرة الوطنية، وهو ما كشفت عنه بوابة تونس في تحقيق…. نشرته في وقت سابق بشأن محاولات صهيونية لسرقة رفات عدد من الحاخامات اليهود المدفونين في تونس ونقلها إلى الأرض المحتلة.
وعلق صلاح الداودي على هذه المخططات بكونها “خزعبلات وأدوات ضغط تافهة”، تمارسها الدوائر الصهيونية على بعض الجهات التي تتعامل معها في تونس، بغاية التأثير على الشبكات الموالية لها، قائلا: “هناك عناصر من اللوبي الفرنكوصهيوني وبعض الحثالات ممن لا فكر ولا هوية ولا انتماء لهم يقع توظيفهم للتسويق لهذه الادعاءات للتلاعب بالرأي العام”.
استغلال مبدأ التعايش الديني
الدكتور فوزي العلوي مدير بمركز “مسارات للدراسات الإنسانية”، والمتخصص في البحوث الخاصة بالتطبيع والقضية الفلسطينية والمقاومة، وصف بدوره جدلية التطبيع وحرية العبادة المثارة بشأن موسم الغريبة بـ”الثنائية المغلوطة”.
واعتبر الدكتور فوزي العلوي في تصريح لبوابة تونس، أن هناك توظيفا سياسيا لمفهوم الحرية الدينية لتعويم مسألة التطبيع، مضيفا: “نحن كتونسيين ليس لدينا مشكل تجاه الطائفة اليهودية وممارستها لمعتقداتها، وهذه مسألة مثبتة ومحسومة عبر التاريخ، ومضمونة بمقتضى الدستور، أما أن يتحول الأمر إلى استغلال مبدإ التسامح الديني لتمرير مفاهيم التطبيع، فهذا توظيف سافر للمسألة الحقوقية والحريات للارتماء في أحضان الصهاينة”.
وبين العلوي أن “اللوبيات الوظيفية” لدى الاحتلال الإسرائيلي، تتعمد اللعب على وتر الحريات الدينية لليهود لإيجاد موطئ قدم لمشاريعها في تونس، مستشهدا بربط زيارة الغريبة وملف السياحة بشخصية وزير السياحة الأسبق روني الطرابلسي المعروف بارتباطاته الوثيقة بالصهاينة حسب قوله، وهو أمر كان من بين أهدافه جعل الوافدين من الأراضي المحتلة إلى تونس في موسم الحج اليهودي أمرا طبيعيا لدى الرأي العام، و”حقا مكتسبا لهم ما يشكل أحد مداخل التطبيع”.

وذكر الباحث بمركز مسارات في هذا الإطار بالفيديوهات التي بثتها إحدى القنوات الإسرائيلية أثناء تغطيتها زيارة وفد سياحي صهيوني إلى “الغريبة” سنة 2018، خلال فترة إشراف روني الطرابلسي على وزارة السياحة وسط “معلومات غير مؤكدة عن دخول الوفد إلى تونس بجوازات سفر إسرائيلية”.
ملف ممتلكات اليهود
وقال الدكتور فوزي العلوي: “بعد هذه المرحلة، بدأ الحديث عن أن الصهاينة المنحدرين من أصول تونسية يحق لهم المطالبة بحق العودة إلى تونس، واسترجاع جنسيتهم وهي خطوة تمهد لإثارة قضية التعويضات عن ممتلكات اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين المحتلة قبل عقود، ضمن الدعاية المزعومة التي يسوق لها كيان العدو لابتزاز الدول العربية”.
ويخلص الدكتور فوزي العلوي إلى أن المقاربة المثالية الضامنة لاحترام الحريات الدينية للطائفة اليهودية، وتؤسس في الآن ذاته سياسة وطنية لمجابهة أجندات التطبيع، تنطلق من تفعيل الشعار الذي أطلقه رئيس الجمهورية خلال الحملة الانتخابية والذي وصم فيه التطبيع بـ”الخيانة العظمى”، قائلا: “يجب تحويل هذا الشعار إلى واقع عبر تشريعات تلتزم بها مؤسسات الدولة، ما سيترتب عنه من استئصال واجتثاث لكل أشكاله ومن يرجون له”.
موسم ديني بعيدا عن التجاذبات السياسية
بوابة تونس تواصلت كذلك مع مائير بيتان أحد وجوه الطائفة اليهودية في جربة، ونجل الحبر الأكبر حاييم بيتان انطلاقا من التزامها بالتوازن ونقل مختلف وجهات النظر.
وفي تعليقه على ما يقع تداوله عن حضور إسرائيليين فعاليات “الغريبة”، أقر مائير بيتان بقدوم سياح “ينحدر أغلبهم من جذور تونسية”، من فلسطين المحتلة إلى الغريبة خلال السنوات الماضية، مبينا أن مشاركتهم تتنزل في سياق ديني بحت بقطع النظر عن الجدل السياسي.

وأوضح مائير بيتان أن هؤلاء الوافدين يأتون للحج “انطلاقا من أصولهم التونسية وحرصهم على المحافظة على عاداتهم وموروثهم الثقافي والحضاري، وإحياء شعائرهم التي تحتل فيها زيارة الغريبة مكانة بارزة، مستبعدا وجود أية أجندات سياسية تقف خلف هذه الزيارات”، حسب قوله.
وقال إن اهتمام سكان جربة من اليهود والمسلمين بموسم الغريبة يرتكز على بعده الديني والسياحي والحركية الاقتصادية التي يضفيها، قائلا: “أنا كشخص أعمل في التجارة وكذلك آخرون ممن ينشطون في قطاعات مختلفة، عندما يستقبلون زائرا يهوديا في محالهم لن يسألوه هل هو قادم من إسرائيل بل سيتعاملون معه كحريف”.
كما تطرق نجل الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية إلى الدعوات التي أطلقها وزير السياحة الأسبق روني الطرابلسي، قائلا:”اعتقد أن مسألة الجنسية أبسط من ذلك، فإذا كنت من أب وأم تونسيين أو أحدهما، وتمتلك الأوراق الثبوتية التي تبين ذلك يصبح من حقك الحصول على الجنسية بعد استخراج المضامين الخاصة بالأبوين، وتقديم مطلب إلى الجهات الإدارية في تونس”.
التراث اليهودي خط أحمر
وبشأن محاولات نقل بعض مكونات التراث اليهودي وجثامين الحاخامات التونسيين إلى الأراضي المحتلة أكد محدثنا أن هذا الأمر غير قابل للتنفيذ مهما كانت الجهة التي تقف خلفه مبينا أن هذا الإرث التاريخي والديني ملك للطائفة اليهودية في تونس التي لن تسمح بالمساس به مضيفا: “لن نسمح لهم بذلك فنحن لن نقبل بالمس بتراثنا ورموزنا”.