الجزائر – واشنطن.. الصحراء تمدّ يدها للعمق الأطلسي

في زحمة التغيرات الجيوسياسية، اختارت الجزائر تغيير بوصلتها نحو “الغرب” بالتقارب مع الولايات المتحدة لطي صفحة علاقة كانت توصف طويلا بــ”الباردة” 

محمد بشير ساسي

على وقع عالم سريع التحوّل ومعقّد من حيث أبنيته، وتركيبة المصالح والقيم ومتشابك ومتداخل في أنماط التفاعلات السائدة فيه، وتُميِّزه حركية في اكتساب القوة وتحولها وتغير موازين القوى، تجد الدّول نفسها مجبرة على حسن التعامل مع دينامية التحولات الحاصلة، وضرورة القراءة الجيدة للوقائع، وواجب البحث في التداعيات والمسارات المحتملة لأي عملية تغيير متوقعة، من خلال الوقوف على مؤشرات تلك التحولات، وتحليلها بعمق يُمَكنها من استجلاء مآلاتها، استعدادًا للتخندق الجيد في مواجهة الانعكاسات الواردة، ورسم الاستراتيجيات الكفيلة بأخذ موطئ قدم حيوي في أي هيكلية دولية قادمة.

تغيير البوصلة

في زحمة التغيرات الجيوسياسية وبين خريطة متحركة من النفوذ والرهانات، تجد الجزائر  نفسها مطالبة بمواكبة هذه الصيرورة التحوُّلية، والاستعداد للتموضع في العالم الجديد الذي يتشكل، وإعادة النظر في أسس العلاقات التقليدية التي سيطرت على سياستها الخارجية المنفتحة أكثر نحو الشرق.

ضمن هذه الرّؤية الاستشرافية، يرى مراقبون أن هناك إشارات واضحة إلى أن البلد المغربي اختار تغيير بوصلته نحو الغرب والتقارب مع الولايات المتحدة الأميركية أكثر من أي وقت مضى لطي صفحة علاقة كانت توصف طويلاً بــ”الباردة”، لكنها اليوم تتقدّم بخطى “حذرة” نحو إعادة تعريف المصالح، والبحث عن نقاط التقاء وسط دائرة من التناقضات.

وبـ”المنطق الجيوستراتجي” نفسه، أرغمت الولايات المتحدة على تكييف سياساتها وفق هذه المتغيرات وهي التي اعتادت لعقود من الزمن على أن تكون الطرف الأثقل والأقوى في علاقاتها الدبلوماسية حتى مع من تطلق عليهم تسمية ” الحلفاء”، لكنّ التحولات السياسية الحاصلة في العالم مؤخرا، فرضت على واشنطن منطقا آخر، وأرغمتها على تصحيح مساراتها وتكييف سياساتها وفق هذه المتغيرات ومستجدات المشهد الدولي وخاصة في ما يتعلق بملف “صراع النفوذ” مع روسيا والصين وأوروبا في منطقة شمال إفريقيا وإفريقيا بشكل عام.

ديناميكية إيجابية

كانت العلاقات الجزائرية الأميركية في الفترة الأولى لحكم الرئيس الأميركي (2017-2021) تقتصر على استمرارية التعاون التقليدي في بعض المجالات على غرار مكافحة الإرهاب والطاقة، أما سياسيا فقد شهدت العلاقات نوعا من التوتر بعد اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية سنة 2020، والذي اعتبرت  الجزائر أنه “لا أثر قانونيا” له لأنه يتعارض مع جميع قرارات الأمم المتحدة.

وقبيل تنصيب الرئيس الجمهوري لولاية ثانية كانت عدة مؤشرات توحي بأن علاقات الجزائر بالولايات المتحدة مرشحة لفترة صعبة، بيد أن واشنطن برأي محللين جنحت صوب بناء شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع الجزائر نظرًا إلى مكانتها الاقتصادية ودورها الإقليمي المؤثــــر في عديد القضايا.

وبعد انتخاب ترامب، وجه إليه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رسالة ذكّر فيها “بعمق علاقات الصداقة التاريخية التي تجمع الجزائر والولايات المتحدة الأميركية”، مشيدا بـ”الديناميكية الإيجابية التي تشهدها الشراكة الثنائية في شتى المجالات”، ومعربا في الوقت نفسه عن عزمه على العمل من أجل “ترقيتها إلى آفاق أرحب، بما يخدم مصالح البلدين المشتركة.”

اتفاقيات برغماتية

ورغم تقاطع المصالح بين الجزائر وواشنطن في العديد من الملفات كالصحراء الغربية والقضية الفلسطينية، ومكافحة الإرهاب وتطوير قطاع الطاقة ودعم الاستقرار في سوريا ولبنان، فإن  العلاقات الجزائرية الأميركية التي كانت “خجولة” خلال العهدة الأولى للرئيس الجمهوري، قد تطورت بشكل ملحوظ اليوم من خلال عدة اتفاقيات براغماتية بلا ضجيج محمّلة بالدلالات.

– تخطيط الجزائر لفتح قنصليات جديدة في الولايات المتحدة استجابة لطلب الجالية الجزائرية المنتشرة بكثافة. وفي خطوة تعكس التوجهات الاستراتيجية للنظام الجزائري لإعطاء زخم قوي في العلاقات مع واشنطن، اختار الرئيس تبون لهذه الممهة الحساسة المحنك صبري بوقادوم وزير الخارجية الأسبق سفيرا في الولايات المتحدة.

– مع بداية العهدة الجديدة للرئيس ترامب في جانفي 2025، وقّعت القيادة الأميركية لإفريقيا “أفريكوم ووزارة الدفاع الجزائرية مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون العسكري، تشمل تبادل الأسلحة ونشر أصول مشتركة، مما وصف بالتحوّل الكبير في السياسة الخارجية الجزائرية.

– مشاركة الجزائر في مبادرات مكافحة الإرهاب  مثل “عملية درع العرعر” التي تشمل دولًا في منطقة الساحل والصحراء، بهدف مكافحة الإرهاب وتدريب القوات المحلية.

– توقيع وزارة الطاقة الجزائرية في 22 جانفي اتفاقية مع مجموعة شيفرون الأميركية للطاقة، لتقييم إمكانات موارد النفط والغاز البحرية في الجزائر بهدف تمهيد الطريق لمشاريع استكشاف وتطوير مستقبلية تهدف إلى تثمين موارد المحروقات الجزائرية.

– توقيع شركة سوناطراك الجزائرية وشركة أوكسيدنتال بتروليوم الأميركية في أبريل 2025 مذكرتي تفاهم لتعزيز التعاون في الاستكشاف وإنتاج الهيدروكربونات في الجزائر، مما يعكس تعميق العلاقات الثنائية في قطاع الطاقة.

– بلوغ إجمالي التبادل التجاري بين البلدين 3.5 مليارات دولار عام 2024، حيث بلغت صادرات الولايات المتحدة إلى الجزائر 1.01 مليار دولار، بينما بلغت وارداتها منها 2.46 مليار دولار.

دوافع التقارب 

ويفسّر خبراء بالشؤون المغاربية الخطوة التي أقدمت عليها الجزائر بتوجيه بوصلتها نحو واشنطن بكونها رد فعل من الدولة المغاربية المحورية على تحديات وتطورات متسارعة يشهدها محيطها الإفريقي والمتوسطي إضافة إلى متغيرات في أدوار اللاعبين الدوليين بالمنطقة. ويمكن وضع سلّم للعوامل التي يمكن اعتبارها دوافع للتحرك الجزائري.

1- التعاون الأمني: تعزيز التعاون الأمني مع وصول دونالد ترمب إلى سدة الحكم في البلاد لإسقاط جميع القراءات التي أثيرت مباشرة بعد تعيينه وزير خارجية (ماركو روبيو) من الداعين إلى فرض عقوبات على الجزائر بسبب مقتنياتها من السلاح الروسي.

ويعتقد مراقبون أن الاتفاق العسكري يشكل ضربة موجعة لفرنسا التي كانت تعتبر نفسها وصية على إفريقيا ولا أمن دونها، في وقت تعتبر واشنطن الجزائر شريكا فعالا في محاربة الإرهاب وتعزيز الاستقرار الإقليمي في المنطقة.

2- تصدّع التحالف مع روسيا: رغم المستوى الاستثنائي من التعاون الذي بلغته العلاقات الروسية الجزائرية تاريخيا في المجالين الأمني والعسكري، إلا أنها باتت تتعرض في السنوات الأخيرة لهزات ملحوظة، ظهرت بالخصوص مع حرب أوكرانيا.

إذ واجهت الجزائر مشاكل في الاستمرارية وتأمين الواردات العسكرية من روسيا بسبب تراجع مستوى الصادرات العسكرية الروسية وتوجيه الذخيرة والمعدلات لمتطلبات حرب أوكرانيا.

وعلى صعيد آخر دشنت روسيا، التي تعتبر الشريك العسكري الأول للجزائر، مؤخرا سلسلة من التحركات على الساحة الإفريقية والمغاربية بشكل رأى فيه شركاؤها الجزائريون أنها تتم على حسابهم.

إذ أبرمت موسكو اتفاقيات في مجالات الطاقة والتعدين وتجارة السلاح مع عدد من الدول الإفريقية والمغاربية، في محاولة منها لاستخدام القارة السمراء قاعدة خلفية لتحركاتها الاستراتيجية المباشرة وغير المباشرة عبر أذرع موازية مثل مجموعة “فاغنر” في تقليص النفوذ الغربي، ولكسب مزيد من المصالح التجارية عبر منتوجاتها من الصناعات الحربية والاستيلاء على ثروات طبيعية ومعادن نفيسة استراتيجية.

بيد أن التحركات الروسية التي تؤدي بشكل ملحوظ إلى المضايقة أو تقليص النفوذ الغربي وخصوصا الفرنسي، باتت تساهم أيضا وبشكل ملحوظ في التأثير في دور الجزائر في منطقة الساحل والتي تعتبرها مجالا حيويا لها، وتلعب منذ عقود أدوارا إقليمية هناك سواء بفعل نفوذها على محيط حدودها  المترامية بآلاف الكيلومترات مع تلك الدول أو في سياق تنسيق مع قوى غربية في قضايا أمنية مثل مكافحة الإرهاب.

ففي عام 2023 أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي “إنهاء” اتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر مع الجماعات الانفصالية الشمالية وأبرزها فصائل الطوارق.

وخرجت الخلافات الروسية الجزائرية إلى العلن عبر انتقادات وجهها مندوب الجزائر عمار بن جامع، إلى دور مجموعة “فاغنر” الروسية في عمليات الجيش المالي شمال البلاد على الحدود مع الجزائر، ودعوته إلى محاسبتها.

كما تعتبر الأزمة الليبية واحدة من الملفات التي ظهرت فيها تباينات بين سياستي روسيا والجزائر إذ يدعم كل منهما الطرف المقابل في الصراع الدائر بين سلطتي الغرب الليبي (حكومة طرابلس) والشرق بزعامة الجنرال خليفة حفتر.

وما قد يكون بمثابة قشة “قصمت ظهر البعير” في علاقات الجزائر بروسيا، مقابل ما تشهده العلاقات الروسية المغربية من تنام في ميادين اقتصادية ومسافة ملحوظة باتت تتخذها الدبلوماسية الروسية من المواقف الجزائرية في ملف الصحراء الغربية مثلا في مجلس الأمن الدولي.

3- علاقات مضطربة مع أوروبا: إذا كانت المشاورات الجزائرية الأميركية حول تطوير التعاون الأمني والعسكري قد بدأت منذ ثلاث سنوات على الأقل، فإن ذلك يعني أن التوترات الأخيرة في العلاقات الفرنسية الجزائرية لم تكن حاسمة دافعا أساسيا وراء التقارب الجزائري الأميركي، رغم أنه يمكن أن يكون قد ساهم في تسريع وتيرة سعي الجزائر إلى التقارب مع واشنطن.

فالجزائر التي تعرضت علاقاتها في السنوات القليلة الأخيرة مع حليفتها التقليدية روسيا لتصدع، دخلت علاقاتها في الأشهر الماضية أزمة حادة مع شريكتها الأوروبية الأولى فرنسا (التي كانت تعتبر نفسها وصية على إفريقيا ولا أمن دونها) على خلفية ملفات ثنائية ولكن بالخصوص بسبب إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون دعمه “سيادة المغرب على الصحراء الغربية وكذلك تصاعد الخلاف الدبلوماسي وتبادل طرد السفراء بالإضافة إلى قضية الذاكرة التاريخية والماضي الاستعماري العقدة المنغصة للعلاقات بين باريس والجزائر.

وقبل فرنسا شهدت علاقات الجزائر مع شريكتها الأوروبية الأخرى إسبانيا أزمة أيضا بسبب ملف الصحراء وتأييد حكومة بيدرو سانشيز لمقترح المغرب بإقامة حكم ذاتي موسع في الصحراء.

ويرى محللون أن التقارب الجزائري الأميركي، حدث بفعل التقاء سعي جزائري نحو واشنطن مع حاجة أميركية إلى دور أمني إقليمي يعوض الفراغ الأمني والتحديات التي بات الغرب يواجهها في منطقة الساحل والصحراء بإنهيار النفوذ الفرنسي والأوروبي هناك.

الوعي بالتحديات

تبني الجزائر والولايات المتحدة علاقاتهما على خلفية تاريخية صنعتها مواقف الرئيس جون كينيدي تجاه الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي (1954-1962) واحتفاء الأميركيين بمؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر، والذي تحمل مدينة أميركية اسم “القادر” نسبة إليه، كما توثقت العلاقات الأمنية على مستوى الاستخبارات والتكوين والتدريب في فترة العشرية السوداء بالبلاد وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

وتدرك أيضا الجزائر أكثر من أي وقت مضى أنه لا يكفيها امتلاك ثروات طبيعية أو مقومات عسكرية واقتصادية تؤهلها للقيام بدور فاعل ومؤثرة في محيطيها الإقليمي والعالمي، في ظل الواقع الدولي الذي يشهد مسارًا لتحوُّل القوة وميل الكفة نحو الشرق.

بل الأمر يحتاج بالدرجة الأولى إلى حسن توظيف تلك الإمكانات، وبلورتها في إطار توليفة متكاملة لتتحول إلى مصدر قوة وتأثير حقيقي، وما يتحكم في كل ذلك هو وجود رؤية وتصور واضحين لما تمتلكه الدولة، ولما تمثله من ثقل آني، وما تريد أن تكونه لاحقًا.

وفي خضم بيئة متغيرة يتحتم على الجزائر أن تمتلك ذلك الوعي بالتحديات التي تفرضها، وأن تتحلى بالفهم الوافي لماجريات عملية التحول الجارية، والانطلاق من أن تغير موازين القوى هو حتمية من الحتميات التاريخية وشواهد الماضي البعيد والقريب تؤكد ذلك، والتسليم بأن التغيير سيحدث يومًا ما، والمطلوب هو الاستعداد له، ومن منطلق المعطيات المتوفرة التي تؤكدها مختلف الدراسات، والباحثون.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *