ثقافة

الجامع الكبير بسوسة…من قلعة عسكرية إلى معلم ديني

يعد الجامع الكبير بمدينة سوسة، شرق تونس، أحد أجمل المعالم الإسلامية بجوهرة الساحل وأجمل المعالم الإسلامية في البلاد التونسية. 
يتربع الجامع الكبير في المدينة العتيقة، ساحر الجمال يرتفع شامخا شاهدا على عصور من الزمن. 

تاريخ تأسيسه

بني الجامع الكبير بمدينة سوسة، شرق تونس، سنة 236 هجريا الموافق لسنة 850 ميلاديا، بأمر من الأمير أبي العباس محمد بن الأغلب. استمرت أشغال البناء عاما وبضعة أشهر. قيل إن تاريخ انتهاء أشغال هذا المعلم الديني يعود إلى سنة 237 هجريا الموافق لسنة 851 ميلاديا.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الأمير الأغلبي أبو العباس محمد بن الأغلب أمر بتأسيس مسجد قرب الرباط، في سنة 237 للهجرة الموافق لسنة 851 للميلاد حين لاحظ ارتفاع عدد سكان مدينة سوسة واتساع رقعتها.
معمار مميز يتميز  الجامع الكبير بمظهره المحصن بفضل الرباط المحاذي له على بعد 50 مترا، بسور ذي شرفات وببرجي مراقبة قبالة الشاطئ. 
شكله المستطيل، يضم بيتا للصلاة وصحنا محاطا بأروقة ترتكز على أعمدة، فيمكنك الدخول إلى هذه قاعة الصلاة عبر عدة أبواب مفتوحة في الواجهات الجانبية.  

لا يتوفر الجامع الكبير على صومعة وهو ما يمكن تفسيره بوجود برج للمراقبة تابع للرباط على بعد بضعة أمتار، إذ ينتصب برجان بالركنين الشمالي الشرقي والجنوبي الشرقي للصحن. 
يعلو البرج الشمالي الشرقي بناء صغير مغطى بقبة، يمكن الوصول إليه بواسطة درج انطلاقا من الصحن. 
ويزين الجامع الكبير ثلاثة أروقة، تعلوها أقواس متجاورة تستند على دعامات قصيرة، ترجع إلى مرحلة البناء الأولى، في حين يرجع الرواق الرابع، المحاذي لقاعة الصلاة والذي يرتكز على أعمدة، إلى الفترة الزيرية زوالذي شهد عدة إصلاحات خلال الفترة المرادية (1086هـ/1675م)، كما تدل على ذلك النقيشة المكتوبة بخط نسخي والطراز الهندسي للبناية.
أما الجزء العلوي للأروقة الأغلبية الثلاثة وقاعة الصلاة، فزين بواسطة نقيشة كوفية ذات حروف مائلة، تندرج ضمن شريط على شكل حوض وهو أسلوب استعمل بواجهة مسجد أبي فتاتة (838-841م) بسوسة ومسجد الزيتونة ومصر الفاطمية.
تنتظم قاعة الصلاة في تصميم على شكل حرف تي اللاتيني وتتكون من 13 بلاطا وستة أساكيب، يتميز من بينها البلاط الأوسط والأسكوب المحاذي لجدار القبلة باتساع أكبر. 
بنيت العمارة الدينية بسوسة  على شكل حرف تي اللاتيني وهو تصميم وجد سابقا بجامع القيروان (670-836م) والمسجد العباسي أبو دولف بسامراء (العراق، 847-861م)، كما تميزت بتواجد قبتين بقاعة الصلاة زوهو شكل ظهر كذلك في مابعد مصر الفاطمية.
النواة الأولى للجامع 
تعود النواة الأولى للمسجد إلى فترة حكم أبي العباس محمد، تتشكل من 13 بلاطا تغطيها أقبية نصف أسطوانية و3 أساكيب ترتكز على عقود نصف دائرية ومتجاورة موجهة في اتجاهين، تستند بدورها على سواري صليبية الشكل. 
وفي حكم إبراهيم الثاني (875 هجري-902 ميلادي)، توسعت قاعة الصلاة بإضافة ثلاثة بلاطات ومحراب جديد تجاوره قبة ذات حنيات ركنية. 
تحمل هذه القبة نصف الأسطوانية زخارف زيرية، كما تدل على ذلك الكوات التي ترتكز على أعمدة صغيرة والتي تزين القبة النصفية، كذلك الكتابات الكوفية المزهرة المنقوشة على الأعمدة العتيقة التي تحدها.
أما المحراب فيتشابه كثيرا مع محراب الجامع الكبير بمدينة المهدية، شرق تونس، و الجامع الكبير بمدينة المنستير. 
وترتكز قبة المحراب الأصلي على قاعدة مربعة الشكل مزينة بنقيشة مكتوبة بخط كوفي، تزينها عدة عناصر زخرفية مثل النجميات والسعيفات والوريقات التي تندرج داخل مربعات مقلوبة، تذكر بالمربعات اللامعة لمحراب جامع القيروان، وسط تونس، وكذلك بالصناعة الخشبية والجصية المعاصرة. 
ورغم أن هذه القبة قد تأثرت بمبادئ صنع القباب القيروانية، إلا أنها تختلف عنها بغياب المدفة وهي البنية التي تربط بين القاعدة والقبة. 


مظهر ضخم ذو صبغة عسكرية 
يذكر المظهر الخارجي الضخم لبناية الجامع الكبير، بهندسة الرباط، كما أن الشبه مثير مع العمارة المائية وتحت الأرضية كما هو الشأن في صهاريج رملة وصفرة بسوسة (الفترة ماقبل الإسلامية)، وأصبح هذا العنصر بعد ذلك من مميزات العمارة الساحلية بتونس. 
شكل المعلم الديني الهندسي تطغى عليه الصبغة العسكرية، بوجود أبراج دائرية ركنية وكذلك السقوف البرميلية الطولية، فمدينة سوسة كانت نقطة أساسية في الاستراتيجية العسكرية الأغلبية، من ذلك أنها كانت منطلقا للحملات الأغلبية العسكرية التي يشنها الجيش الأغلبي لاحتلال جزر صقلية وسردينا ومالطا.

توسعة الجامع 
شهد الجامع الكبير عدة توسيعات شملت بيت الصلاة في اتجاه الجنوب، جرى تسقيف المساحة المضافة بأقبية متقاطعة بعدما كانت مساحتها محدودة تقتصر على ثلاثة بلاطات عريضة مسقفة بأقبية برميلية مقامة على ركائز مبنية قصيرة. 
وفي القرن 5 للهجرة الموافق ل 11 ميلادية، أضيفت مسكبات قبلية وأزيل المحراب وكذلك جدران القبة وبني محراب جديد تتقدمه قبة محدثة معه.
شملت هذه العناصر المعمارية على خطوط كوفية وزخارف بطابع مخصوص تشير إلى فترة المعز بن باديس. 
أما المحراب فقد صُمم حسب مثال محراب مسجد السيدة بمدينة المنستير، الذي شيد كذلك في تلك الفترة.

 ويبدو الجامع الكبير بمدينة سوسة، في شكل قلعة سميكة الجدران قوية البنيان، ترتكز سقوفه وأروقته على العضادات المبنية بالحجارة المرصوصة رصاً محكما، بخلاف جل الجوامع التي ترتكز عناصرها المعمارية على الأعمدة مثل جامع القيروان والزيتونة ونابل وغيرها من المعالم الدينية الكبيرة.