فوزي الصـدقاوي
من شأن تفحّص العلاقة بين الثورة والحريّة، أن يساعد على مواجهة تحديات عمليّة بناء الديمقراطيّة، فالثورة في سبيل الحرية لا تضمن بناء الديمقراطية دائماً، لأنّها تقوم على موازنات شديدة التعقيد. وقد أثار عزمي بشارة، أبعاد هذه العلاقة في كتابه الثورة وقابليّة الثورة (1)، مستفرغا فيه الجهد، ومستشكلا ما وسعته المباحث، لفهم مصطلح الثورة وما يضيفه من معنى نظرياً، وأيضا ما يُضيفه إلى تجربة العرب التاريخية المعاصرة. فأي معان يمكن استخلاصها فعلاً ؟
تنحدر كلمة الثورة / revolution، من استخدامها في المجال الفلكي القديم، بما هو مصطلح يعني حركة دوران النجوم حول محور ما، وفي أصلها في الإنجليزية، نجدها بمعنى حركة متكررة، ومعــــنى العــــودة إلى النقطة نفسها، ومن عبارة “الثورة المجيدة” (The Glorious Revolution ) التي أُطلقت بمناسبة وصف طرد أسرة آل ستيوارت من الحكم ونقل السلطة إلى وليام وماري، نجد معنى العودة إلى النقطة نفسها، وإذاً، فما يُفهم من العودة في هذه المناسبة هي عودة السلطة إلى “العائلة”، أو إعادة السلطة إلى أصحابها الطبيعيين”.
كان مصطلح الحريّة لا يتعدى قبل الثورة الفرنسية، معنى التخلص من العبودية وتحرير الجسد من القيود، وما يُكبِّل حركته وتحرير النفس من الخوف، هذا في المستوى الأول، أمّا في المستوى الثاني فيتعلق الأمر بالحريّة السياسية والاجتماعيّة والحرية في صنع القرار. أمّا عزمي بشارة، فيميّز من جهته بين الحريّة السالبة والحرية المُوجِبة. فالحريّة في معناها الأول (السالبة) هي “الحريّة من شيء ما” وتعني فكّ القيود، من أجل استعادة حقٍ مسلوب للإنسان. ويبدو أن الانطباع الأوّل الذي كان سائداً عن الثورات، أن هنالك حالة طبيعية أو حقوقاً طبيعيةً ممنوحةً للناس سلبتها منهم الأنظمة الحاكمة، ولا تهدف الثورة إلا لإعادتها إليهم.
أمّا الحريّة في معناها الثاني فهي “الحريّة في ما هو حق له” أي في ما يسعى الفرد/المواطن إلى اكتسابه من حقوق مدنية وسياسية في إطار الدولة. والثورات الحديثة تسعى دائما إلى الحريّة في بُعدها الثاني، لارتباطها بحقوق المواطنة في إطار مؤسسات الدولة، الضامنة لممارسة تلك الحقوق. والواقع أن هذه المؤسسات ليس لها من مبرّر لوجودها، إلا لضمان مشاركة المواطن في الدولة. وعلى الرغم من أنّ الثورات الحديثة قد تفشل في بناء الديمقراطية، بل قد لا تضمن تحقيق الديمقراطيّة، فإنّها تظلّ تتوق على الدوام إلى تحقيق الحريّة. لأنّ الحريّة هي الروح التي تتميّز بها الثورات الحديثة.
لقد حظيَتْ الثورة الفرنسية، بصورة النموذج لدى الأوروبيين فكانت مُلهمَة لفكر الثوّار وللثورات اللاحقة. وحين تطوّرت حركة الاحتجاج إلى ثورة وأدت إلى تغيير المَلِك، ألهم ذلك الثوريين في فرنسا أن يكتشفوا في كلمة الثورة معنى الجِدة، وأن يكتشفوا معنى تأسيس الدولة في حالة الولايات المتحدة، مع أنّ ذلك لم يكن مقصوداً من البداية.
والمُستخدم لمصطلح الثورة في عصرنا، يجد فيها دلالة على الحتمية أو معنى النهاية المحتومة، فالثورة إذا بدأت، لابد أن تصل إلى هدفها، وغالباً ما يُسمّى العصيان أو التمرّد ثورةً، بعد أن يكون الهدف قد لاح تحقيقه. لذلك فإنّ هذا المعنى عادة ما يكون سببا في خوف الحكّام من كلمة “ثورة” لأنّها قد تتقمّص صورة العصيان وقد تتخذ شكل تمرّد ولا يمكن توقع تحوّلها إلى ثورة، فهي لا تكشف عن وجهها إلا في مرحلة تكون قد أوشكت على التحقق، ويتأتى خوف الحكّام منها، لكونها إذا بدأت في الغليان، لا تتوقف قبل أن تبلغ غايتها، فتُنشِئ بذلك واقعاً لا يمكن الرجوع عنه.
ويلفتُ عزمي بشارة الانتباه إلى أن هذه التجارب في علاقة بالثورات، أبانت أن إعدام لويس السادس عشر تم بعد أن وَجّهتْ الثورة الفرنسية ضده تهمة الخيانة لتعامله مع دول أوروبيّة، وكان البرلمان الإنجليزي بقيادة كروميل قبل ذلك أقرّ إعدام الملك شارل الأول، بتهمة الخيانة أيضا لتعامله مع قوى أجنبية. وهو ما يدعو الديمقراطيين العرب إلى أن يستفيدوا من هذه التجارب ويُدْرِكوا عمق المسألة الوطنيّة وأهميّتها، عند بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة، إذ لم يكن الاستبدادُ مُدَانا في رأي الجماهير، بقدر شناعة التورّط مع قوى الخارج.
كما يُــفهم أيضا من خلال التجارب، أن الحريّة التي تتوق إليها الثورة، تأتي على نقيضٍ من معنى الاستبداد، الذي يعمل نظام الحكم بجميع وسائله على استبعاد المواطنين من الميدان العام وإبقائهم في مجالاتهم الخاصة، مشغولين بشؤونهم. لذلك ما يجعل من إسقاط مثل هذا النظام ثورة، هو استعادة المواطنين لحقهم في المشاركة في الحيّز العام، بإدارة شؤونهم وتقرير مصيرهم، والمساهمة في صنع الخير العام، بما هو في عُرف الثورات الديمقراطية، قيمة أساسية.
لم يكن الشعب في فرنسا منظماً كيانا سياسيا، وإنّما كان محكوما بهيئات تقليدية إقطاعية تقوم مقام الوسيط وتستمد شرعيّتها من سلطة أعلى، وهو الملك صاحب السيادة. والجانب المستنير في استبداد الملك هو أنّه يمثل بسلطته المصالح العامة، وفي ما عدا ذلك فهو مجال للمصالح الخاصة. وكلمة الشعب تعدّ مفتاحاً لفهم الثورة الفرنسية، وهي التي على أساسِـها كانت الجماهير الفرنسية تُـحدد ضد الجمعية التأسيسية مَوقفها، وعلى أساسها استخفّت من الدستور الذي لم يؤد إلى معالجة مشكلة الفقراء الغاضبين ضد البرلمان.
لقد كان ظهور الجمهور/الحشد، وهم الفقراء الذين كانوا خارج الحيّز العام، أكثر ما كان ملفتا مما أفرزته الثورة من ظواهر، لكن الدستوريين والحقوقيين كانوا يرون في حركة العامة/ الجمهور مؤشراً على تشكّل أسوإ أنواع الحكم، إذا ما تحوّل الجمهور إلى غوغاء تحت قيادة ديماغوجيين، يتكلمون باسم الشعب. لكن سيعتبر ماركس لاحقا، ثورة الفقراء ثورة سياسية، من أجل الحريّة، وأن الثورة الفرنسية، إن لم تحقق أهدافها، فذلك لأنّها لم تحلّ مشكلة الفقراء، بينما يعتقد لينين أن الحريّة هي التحرر من الفقر، ولا يمكن أن يكون لها معنى خارج ما يمكن أن تحققه من أثر إيجابي اجتماعي على الطبقات الدنيا. وهو ما يثير إشكاليّة علاقة الحرية والتنميّة من جهة وعلاقة التنميّة والحقوق السياسية والمدنيّة والحقوق الاجتماعيّة، في مستوى الأفراد كما بين الشعوب أيضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- عزمي، بشارة : الثورة والقابليّة للثورة, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،الطبعة الأولى، بيروت، 2012.