كانت مواجهة النظام الأسدي للثورة السورية، تعتمد على استراتيجية الاستئصال، وقد تبيّن السوريون ذلك منذ خطاب 30 جوان 2011، حين تأكّدوا أن النظام كان يرى في مطالبهم، “فتنة تطلّ برأسها” وليست مناسبة للمراجعة وإجراء ما يتعيّن من إصلاح، وأن وصف المحتجّين بالمتآمرين، بدا مقدمة لن يتنهي مآلها إلا بالحكم على الثوّار بالإعدام في الميدان، و”إعلان الحرب على المجتمع السوري”، باستخدام كل الوسائل الكفيلة بالمحافظة على السلطة، حتى وإن أدى الأمر إلى اقتتال أهليّ يُدمّر البلاد.
ومع تطوّر الثورة المسلحة، حرص النظام على الإبقاء على ميزان القوى لمصلحة الجيش النظامي، بحصر الصراع المسلح في الأرياف، ومحتفظا بمراكز نفوذه محصّنة في المدن، فيما ظلت المعارضة المسلحة متموقعة خارج المدن، ولاجئة في الأرياف السوريّة.
أهم الأخبار الآن:
لكن نقطة تحوّل جديدة في مستوى تصعيد الصراع، كانت في 18 جويلية 2012، مع تفجير مبنى الأمن القومي، وقتل عدد من أعضاء “خلية الأزمة” ومنهم قادة النظام الأمنيين والعسكريين. حيث أطلق النظام يده باستخدام القوة القصوى، خاصة مع دخول القوى المسلحة إلى مدينة حلب، ومستفيدا من الحماية التي أمّنها الفيتو الروسي- الصيني. فلجأ إلى المروحيات العسكريّة في حربه ضد الثورة في 22 جويلية 2012، وضد الثوّار في معارك دمشق وحلب. واستخدم في 25 جويلية 2012 المقاتلات العسكريّة وقام بقصف حلب وتدمير الأحياء والمدن التي اعتصم بها الثوّار، ثم قام بتعميم القصف الجوي على مختلف المناطق السوريّة الثائرة.
بيد أنّ السيطرة على الأرض كانت استدعت السلطات السورية إلى تشکیل ميليشيا، تضطلع بدور الإسناد للقوات النظاميّة، مكوّنة من مدنيين أدّوا الخدمة العسكرية مع عناصر من المتطوّعين ممن يثق النظام في ولائهم المطلق، سميت بـ “اللجان الشعبيّة” وعرفت بتسميتها المتداولة بين السوريين بـ(الشبيحة)، وقد أوكل إليها النظام مهمة حماية الأحياء من هجمات المعارضة المسلحة، وقد تراوح عددهم بين 8000 و10000 مقاتل مأجور سيتولى النظام انتقاءهم من الجنائيين ومن ذوي السمعة السيئة في مناطقهم وفرزهم على أساس ما يتميّزون به من قسوة وقوة عضلية، ومن ثم رسكلتهم وتوظيفهم، في صورة ميليشيات غير مؤطّرة، ضمن مؤسسات الدولة. وهي تتمتع بــ”شرعيّة” خروجها عن القانون، برعاية رسمية، حيث ترافقها قوات الأمن في جلّ نشاطاتها العنيفة والمتوحّشة. وستتولى “الشبيحة” مهمة قمع التظاهرات وتنفيذ حكم الاعدام على الثوّار في الميدان، وستكون إحدى أهمّ أدوات تنفيذ “إعلان الحرب على المجتمع السوري”.
كانت “الشبيحة” خلال الثورة السوريّة، قد جرى تجنيد عناصرها وتسليحهم وتأطيرهم تحت مظلة «جمعية بستان الباشا الخيرية» التي يديرها رامي مخلوف في مدينة جبلة، بينما كانت فيما سبق ظاهرة أمنيّة نشطة في ثنايا المجتمع السوري تدار من قبل جمعيّة الامام المرتضى ويقودها، جميل الأسد شقيق حافظ الأسد، وصارت آليّة تستخدم في قمع وردع الاحتجاجات الاجتماعيّة، بل وإذلال المواطنين وابتزازهم.
ولعل تسميات الجمعيات التي نشطت في ظلها هذه الميليشيات، كما يرى بشارة، تعكس التركيبة الفكريّة التي تأسست على خلفيّتها، وتكشف فصام الشخصيات النشطة فيها، بين ما تنتسب إليه من رمزيّة وقيم تحت تلك المُسَميَات، ودرجة السلوك الإجرامي والمتوحّش الذي شكّل هويّتها، ليس فقط في ذاكرة السوريين، بل وفي تصوّر عناصر الشبيحة لأنفسهم، بوصفها قوّة غاشمة، وفرق موت لا مجاز فيها، فــمدينتا جبلة وبانياس: (مجزرتا حي رأس النبع وقرية البيضا في ماي 2013)، كانتا أولى عروضهم المتوحّشة، وعلّمتا وشما في ذاكرة السوريين، وفي تاريخ الفظاعات والقمع عندهم إلى حدود تلك المرحلة، إذ في القريتين، قتل ليس أقل من 459 مدنيا بينهم 92 طفلا و71 امرأة، تعرض أغلبهم للذبح بالسكاكين والسواطير والحرق.
ومع أن تسميّة “شبيحة” كانت منتشرة بمحمولها المرعب، في الأوساط الشعبية، كما يصفها بشارة، ومع ما خلّفته من خوف في نفوس المواطنين السوريين وذاكرتهم الجماعيّة التي شكّلتها عقود طوال من حكم «آل الأسد»، فإنّ استعمال عبارة “شبيحة” من قبل عناصر الميليشيا بدلا عن مصطلح ” اللجان الشعبية ” كان يشي بحرص “الشبيحة” نفسها على إشاعة الخوف وعلى مستوى التماهي مع المهمّة الموكولة إليهم، وتعبيرا عن إصرار عناصرها على إظهار مطلق الولاء لرأس النظام، فقد كان يُسمع هُتافهم المحبب لنفوسهم : «شبْيحَة لِلأبَدْ لَجْلْ عْيُونَك يَا أسد».
كان تجنيد الشبيحة من القرى العلويّة في ريف اللاذقيّة، قد أدى إلى استقطاب طوائفي شديد التوتر، نجحت آليات الضبط الاجتماعي بقواها المدنية والمجتمعية بمن فيها الوجهاء والحكماء من رجال الدين، إلى كبح جماح الفتنة والاحتراب الأهلي، لكن هذا التجنيد أدى في قرى حمص ذات الأغلبية العلوية إلى القيام بأعمال قمع التظاهرات في القرى والمناطق ذات الأغلبية السنيّة، وهو ما نجم عنه وقوع حوادث طائفية وأعمال ثأريّة متبادلة. الأمر الذي رفع سقف المخاطر الحقيقية المحدقة بتفكيك المجتمع السوري.
لقد استفاد النظام خلال عمليات التجنيد ممن تم تسريحهم من السجون، بموجب مراسيم عفو رئاسي، فقام بعمليّة التعبئة والحشد لأعداد كبيرة من المجرمين الجنائيين ضد الثورة، لكن أعداد منهم غير قليلة تحوّلت إلى عصابات للخطف والسلب والسرقة والقتل باسم النظام وتحت حمايته، ويلاحظ عزمي بشارة، أن مثل هذه الأعمال كانت مجموعات أخرى أيضا، ترتكبها باسم الثورة.
فيما انخرط عدد من المجرمين المسرّحين بموجب عفو رئاسي في الثورة وكان منهم من حمل السلاح ضد النظام منذ بداية الثورة ومن أهمهم بلال الكن من حمص. الذي أبلى في مقاتلة أعوان النظام من الشبيحة ما قيل إنّ اسمه بات يرعبهم حتى إذا قـُتل في 7 سبتمبر 2011، نبشوا قبره شماتة وتشفيا.
ويلاحظ في هذا السياق عزمي بشارة أنّه لم يكن جميع عناصر الشبيحة من الطائفة العلويّة بل كانت مختلطة من حيث الانتماء الطائفي لعناصرها، وهي متنوعة من حيث أن قسما من عناصرها كانوا من الفلسطنيين (جماعة أحمد جبريل-الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة). وقاموا بقمع تظاهرات الفلسطنيين المشاركين في الثورة، وتلك المتضامنة مع الشعب السوري في المخيمات (عدرا واليرموك). ويشدد بشارة، على أنّ ما يُشاع من اتهامات تطال الطائفة العلويّة برمتها، كان مجافيا للحقيقة، إذ إن مناضلين ديمقراطيين علويين قضوا سنوات طويلة في سجون الأسد، بسبب مواقفهم المناهضة لنظام.
ولم تنهك الشبيحة المجتمع بعنفها وجرائمها وحسب، بل سلكت جميع أنواع الفساد والابتزاز والإذلال وخرق القانون، إذ جعلت من اعتقال الآلاف من السوريين ومن قرارات سراحهم واحتجازهم مسالك للفساد والتمويل الذاتي، لفائدة الضباط والقيادات الأمنيّة عبر الافتداء بالمال لسراح المعتقلين، ومساومة أهالي القتلى مقابل مبالغ مالية، لتسليم جثامين أبنائها ودفنها.
فالشبيحة وهي منظومة فاشية عنيفة وغاشمة تم استقطاب”مواردها البشرية” من أرذل وأخسّ ما أنتجه المجتمع السوري، وضعها النظام الأسدي في مواجهة الثورة ميدانيا، كانت بما هي كذلك، عضوا سرطانيا يسيّج مجتمع الخوف وينخره، ثم هو يتمدد ليدمّر القيم والثقافة والاقتصاد والسياسة، ويفرغ حياة السوريين من أيّ معنى، بما يجعل سورية بلدا طاردا لشعبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- د. عزمي بشارة : سوريّة درب الآلام نحو الحريّة، محاولة في التاريخ الراهن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.
أضف تعليقا