فـوزي الصـدقاوي
ليست الثورة حدثا معتادا لدى الشعوب العربيّة، وإن حدثت فستكون في مواجهة أسئلة عن الماضي واستفسارات عن المستقبل، وأيّ اجابة من أيّ قطر عربي تجيء فإنّها تظلّ إجابة مهمّة ومرتقبة من جميع شعوب الأقطار العربيّة، وهي أيضا محتملة وغنيّة، ليس لأنّها نجحت في محاصرة الاستبداد واستبعاده، وإنّما أيضا لأنّه بات أمامها مستقبل ممكن تفكّر فيه بحريّة وبروح جماعيّة وضمن مؤسسات ديمقراطيّة، وتلك في ذاتها تجربة غير مسبوقة خصّص عزمي بشارة لها عددا من كتاباته للبحث فيها واستخلاص الدروس منها (1).
لقد بدا في نظر الشعوب العربيّة أنّ حركات التحرّر الوطني من الاستعمار قد آلت إلى أسوإ ما كانت تأمله، حين أفرزت طغمة “وطنيّة” باعتهم “شعارات جوفاء” لتضمن دوام إقامتها العائليّة في مركز الحكم، ثمّ لتجعل الحكم بين أيدي أبنائها بنصوص تشرّع التوريث وتؤبّده دستوريّا. لقد رسّخت أنظمة الحكم تقاليد من العلاقات القائمة على المحسوبية من هرم السلطة إلى أجهزتها المركزيّة والفرعيّة، بما جعل المحسوبيّة (Nepotism)، نهجا وآلية لإنتاج الموالين من موظّفين سامين وقضاة ومهندسين ومحامين ومثقفين وإعلاميين وصحفيين، فتمدّدت العائلة الحاكمة وأنشأت طبقة حاكمة تتحصّن بحزام من الـ”مريدين”، وَضعوا كلّ مهاراتهم في خدمة صاحب السلطة وانتصارا لما قرّره من سياسات.
وبينما يتم في الأنظمة الديمقراطيّة تنظيم المجال العام والمجال الخاص، وما بينهما من تداخلات في إطار علاقة مفهوم الدولة بمفهوم المواطنة، فإنّ الأنظمة الشموليّة تعمل على تغيب المؤسسات الوطنيّة للدولة المنفصلة عن الحاكم وبطانته، فيقتحم خاصّ الحكّام ما يُـفترض أن يُسمّى المجال العام ويصبح الفساد هو القاعدة، وفي غياب المؤسسات التمثيلية والوسيطة، وفي غياب المؤسسات الرقابيّة أيضا، يُصبح العمومي الذي هو للدولة، نظيرا للعام الذي هو مجال للمواطنين. لكن سلطة الاستبداد التي تكون قد استفردت بالمواطن في غياب المؤسسات الرقابيّة والتمثيلية، تسمح لنفسها أن تتصرّف في المجال العام، كما لو أنّه مجالها الخاص، وهي تتوسّل بما لأجهزة أمنها من سلطة على أساس أن ما يبدو خاص بالمواطن، هو في نظر الأنظمة الاستبداديّة خاص لها. وهذا يعني أنّ الجمهوريات العربيّة في ظلّ منظومات الاستبداد والفساد تحوّلت مع آليات التوريث الدستوريّة إلى “مُلُكيَات” لكن بمسميات مختلفة صار الفساد، في نظر عزمي بشارة، من العلامات المميّزة لحكّام الجمهوريات العربيّة المتأخرة، ولم يكن ذلك إلّا في ظلّ صعود نخبة طفيْليّة وانتهازية لا دوافع وطنيّة لها، تحيط بالحكّام وتؤدي لفائدتهم وظائف أساسيّة تتعلّق بإدارة الحكم. فتستمر الشرعيّةّ الأيديولوجيّة في التآكل بما يزيد من حالة ترهّل الأنظمة، وفي الوقت الذي أصبح يبدو أنّ لا آفاق يمكن أن تنفتح إليها هذه الحالة العربيّة البائسة، نجحت الانتفاضة التونسية في أن تقدّم إجابة جديدة عن آفاق ممكنة، ما حمل عزمي بشارة على الاستخلاص أنّ أحداث الثورة التونسية أكّدت أنّ الفساد الذي أصبحت عليه الأنظمة، يثير في الشعوب مشاعر الغبن والظلم أكثر مما يثيره الفقر وأنّه إذا كان يمكن احتمال الفقر، فإنّ احتمال تبعات فساد الحكّام، أمر لا تبرره سياسة دولة ولا يستسيغه شرف وطنيّ، ولا تقبله عدالة اجتماعيّة.
لم تكن الثورة الشعبية في تونس قفزة في فراغ، أو حدث دون مقدمات، وإنما كانت نتاج تراكم تاريخي من النزاعات الاجتماعيّة والثقافية والمجتمعيّة، فتونس لها تاريخ طويل من الاحتجاج الشعبي في علاقة بالقضايا الاجتماعية والسياسية، وكان ذلك مؤثرا إلى حدّ بعيد في تغيير السياسات المعتمدة من قبل السلطة، (انتفاضة الوردانين 1969، انتفاضة قصر هلال أكتوبر 1977، الإضراب العام في 26 جانفي 1978، أحداث قفصة 1980، وانتفاضة الخبز في جانفي 1984، وانتفاضة الحوض المنجمي التي انطلقت في جانفي 2008). لكن ثراء تاريخ الاحتجاجات الشعبية ليس بسبب الأزمات وحدها، وإنما أيضا بسبب الثقافة المدنيّة التي ارتبطت بروح التحديث السياسي والإداري في تجربة الدولة التونسية الحديثة، وقد انعكست الروح التحديثية هذه على حياة المجتمع التونسي ومكوّناته. فكانت الثورة في تونس -في رأي عزمي بشارة- تستبطن رؤيتها للمستقبل، وتتجهّز بمؤسسات دولة مدنيّة وبمكوّنات مجتمعية عريقة وبنخب متمرّسة، ذات مؤهلات سياسية وعلميّة.
من الواضح أنّ الانتفاضات ضد السلطة المركزيّة كانت طَرَفيّة في أغلبها، وكان سرعان ما يُفقد القمع زخمَها، لكن أحداث 17 ديسمبر 2010 التي اندلعت في سيدي بوزيد، واستمرت لوقت كافٍ إلى أن تحوّلت إلى ثورة، كانت قد نسّقت جهودها مع أبناء الجهات المجاورة، منعا دون محاصرتها. وظلت تنضج إلى أن انضمّ إليها السياسيون والنقابيون، وتحرّكت المناطق الواقعة في حزام العاصمة. كانت الثورة تعبّر عن غضب الأطراف المهمشة ضد المركز السياسي والاقتصادي. وكان من الطبيعي أن تستجيب لها أطراف العاصمة وتتضامن معها، لذلك فإنّ البنية الطرفية للثورة التونسية ستظلّ تحكم مسارها السياسي.
وإذا كان إحراق محمّد البوعزيزي لنفسه سببا قادحا للانتفاضة انطلاقا من مدينة سيدي بوزيد فإنّ تلك الأحداث كانت أيضا اللحظة التي يُؤرّخُ منها للثورة التونسية، أمّا التسميّة بثورة 14 جانفي 2011 لارتباط نجاحها بذلك اليوم ، فقد اعتبره، أبناء المناطق الداخلية البادؤون بالثورة، سطو المركز للرمزيّة الثورية التي اندلعت بأيدي أبناء الأطراف يوم 17 ديسمبر 2010، وهو ما ظلّ يفسّر على أنّه استمرار للغبن التاريخي الذي عانته الجهات المحرومة لمراحل طويلة من تاريخ تونس. ويذهب عزمي بشارة إلى أنّ اعتبار النتائج ببداياتها ليس دائما صحيحا، لأن البدايات قد لا تنتهي إلى نتائجها المأمولة دائما. ناهيك عن أنّ تسميّة الثورة بنهايتها كان يرتبط بسقوط أوّل رئيس عربي في أعقاب ثورة شعبيّة، كان مثّل لحظة فارقة في التاريخ العربي المعاصر، وهي رسالة قويّة، لمن يرغب في إلتقاطها. وأنّ أحداثا في (مدينة طرفيّة) مثل مدينة سيدي بوزيد، ما كان يبلغ مدى تأثيرها (إلى المركز/ العاصمة)، ويُسقط رئيسا عربيا يوصف بكونه ديكتاتورا لولا أنّ قابليّة للثورة كانت هيّأت مدينة سيدي بوزريد كما هيّأت البلاد التونسية بجاهزيّة نضاليّة عاليّة، وبرفض عام لدى التونسين، الاستمرار في العيش تحت السلطة القائمة.
فحين اندلعت الانتفاضة كانت الجاهزيّة الثوريّة بتجارب المناضلين وخبراتهم السياسية المتراكمة، قد تهيّأت لاستيعاب الحدث والتعامل معه، مستفيدة من تجارب الماضي لتتخطّى معوّقات الفشل، وتحويله إلى انتصار ممكن ضد الاستبداد. بما يعني أنّ النهاية المأمولة لم تكن لحظة حالمة، أو عاطفيّة، بقدر ما كانت مع ذلك، حالة عقلانيّة تستوعب وتستقرئ وتستشرف وتخطّط، بروح الجماعة الوطنيّة. ولأجل ذلك كانت القابليّة للثورة، قابليّة تتوفر على شروط تحويل المأمول إلى واقع منجز.
تقدّم لحظة اندلاع الثورات العربيّة إشارة قويّة على أنّ مرحلة الدولة العربيّة الحديثة، أشرفت على الانتهاء، لكن من المبكر -حسب عزمي بشارة- أن نقرّر في ما إذا كانت هذه النهاية تعني أنّه يوشك تاريخ عربيّ جديد أن يبدأ في التشكّل، ذلك أنّ الثورات العربيّة بما هي ظاهرة جديدة قد يستغرق تشكّل ملامحها السوسيولوجية بعض السنوات وربّما بعض العقود لنرى تراكم ما أحدثته هذه التغييرات من نتائج. لكن بداية التحقيب لتاريخ عربي جديد، واعتبار أنّ مرحلة الدولة العربيّة الحديثة قد أشرفت على الانتهاء، يُمكن أن يتأكّد إن كانت شرعت عدد من الدول العربيّة في العمل من أجل التحوّل إلى الديمقراطية، ففي مثل هذا التحوّل يمكن أن نتأكّد أن قطيعة فعليّة، مع دولة الاستبداد وثقافتها قد حَـدَثتْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– عزمي بشارة: الثورة التونسية المجيدة، بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها، مركز الأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط 1، 2012، ص 496.