ثقافة رأي

“التونسية”.. التاريخ يكتبه المنتصرون ويصحّحه المخرجون

صابر بن عامر

استقبلت مدينة الثقافة الشاذلي القليبي بالعاصمة تونس، مساء أمس السبت 4 فيفري، العرض الأول للفيلم الوثائقي-الروائي “التونسية” للمخرج منصف بربوش، الذي اختار في عمله الجديد الاحتفاء برائدة الحركة النسائية بتونس، المناضلة الراحلة بشيرة بن مراد (1913-1993).

ووسط حضور ثلة من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين وعائلة الراحلة، انطلق بقاعة عمار الخليفي بمدينة الثقافة عرض الفيلم الحدث بشيء من التأخير، ناهز الساعة من الزمن نتيجة عطب تقني، مُعلنا الانتهاء أخيرا من إنجاز هذا العمل الذي شهد أزمة في إنتاجه، حيث لم يتلقّ مخرجه تمويلا من الدولة التونسية، مُكتفيا بإمكانياته المادية الشخصية ودعم من عائلة بشيرة بن مراد.

وثائقيات مرويّة

في كلمته الترحيبية، قال منصف بربوش، موجّها كلامه إلى روح المناضلة المكرّمة في فيلمه، بشيرة بن مراد: “حين التقينا عام 1988، وعدتك أن أُنجز فيلما عنك، وها أنا اليوم أفي بوعدي.. العمل كان شاقا حقا، لكنّك تستحقين.. للّا بشيرة نحن اليوم مدينون لك، وما الفيلم إلّا رد اعتبار إليك”.

وختم بربوش موجّها كلامه إلى الحضور: “الفيلم دعوة إلى التفكير وتصحيح مسار التاريخ”.

ومنصف بربوش مخرج تونسي، بدأت علاقته بالسينما منذ كان صبيا عندما كان يسكن فوق قاعة سينما الحمراء بتونس العاصمة، حين كانت أفلام: “فجر الإسلام” و”إسلاماه” و”صلاح الدين الأيوبي” ملء السمع والبصر، وكانت تُسمّى في ذلك الزمان “إنتاج رائع”.

أخرج أول شريط بعنوان “فوق حدود العقل” مستوحى من قصة ليوسف إدريس صوّره في القاهرة، مدّته عشرون دقيقة، وهو في سن الثامنة والعشرين.

درس في القاهرة، وهو خريج معهدها العالي للسينما عام 1979، وأخرج “حصار بيروت” و”أليس الصبح بقريب” عن تاريخ الحركة الإسلامية بتونس عام 1985.

كما أخرج أفلام: “ونطق الحجر”، “تونس 87″، “الشّهادة”، قبل أن يُهاجر قسرا إلى أوروبا، ويعمل مخرجا في العديد من البرامج والأفلام من إنتاج التلفزة الكندية، ليعود إثرها إلى تونس، ويقوم بإخراج العديد من الأفلام القصيرة والوثائقية أهمها: “الصابرون”، “9 أفريل”، “الثورة مستمرة”، و”صراع”.

وكشف بربوش في تصريح خاص ببوابة تونس أنّ إنجاز عمله الجديد استغرق سنتين، لكن عملية جمع الوثائق والصور الخاصة بالراحلة بشيرة بن مراد تتطلّب منه ثلاثين عاما من البحث والتقصّي، مؤكّدا أنه استند في إعداد فيلمه إلى وثائق متنوّعة تحصّل عليها من الأرشيفين الفرنسي والبلجيكي وحتى الكندي، إلّا أنه لم يجد أي وثائق تتعلق بهذه المناضلة في الأرشيف الوطني التونسي، ما يطرح العديد من نقاط الاستفهام؟

أسئلة إشكالية أجاب عنها مسار الفيلم الوثائقي-الروائي الطويل (70 دقيقة) في تتبّعه مسيرة المناضلة الراحلة التي وقع شطب ذكراها من السجل النضالي التونسي غداة الاستقلال، لكن ذاكرتها وذاكرة من جايلها أو من عاصرها من أفراد عائلتها أبت النسيان.

الفيلم يُبرز في انتقال لوني، الأبيض والأسود، ما يُحيل إلى الماضي، وهو الجانب الروائي في العمل الذي يتتبّع سيرة بشيرة بن مراد ومسيرتها منذ الطفولة إلى مرحلة الشباب (قامت بالدور انتصار البرهومي)، والألوان، بما يشير إلى الحاضر، وهو الجانب التوثيقي لشهادات من عاصروا “للّا بشيرة”، كما يحلو لأهلها وأصدقائها ومُريداتها مناداتها، ثم الحاضر المتخيّل الذي جسّدته بالصوت الخارجي وحضوريا أمام الكاميرا الممثلة التونسية المخضرمة حليمة داواد.

وبين الأبيض والأسود والألوان، تأتي الشهادات تباعا من العائلة والأصدقاء وبعض السياسيين الذين جايلوا بشيرة بن مراد، وواكبوا نضالها المُستميت من أجل تمكين المرأة التونسية زمن الاستعمار الفرنسي على غرار: عبدالفتاح مورو، الطيب الزهار، عبدالحق الأسود، الطاهر بن مراد، نعيمة بن حمودة، آسيا غلّاب، سلوى باي وغيرهم الكثير.

شهادات ومحاكاة

شهادات أبرزت بصورة تكاد تكون مكتملة حياة بشيرة بن مراد، انطلاقا من وسطها العائلي الذي أثرى زادها المعرفي، وانتهاء بدورها السياسي في الدفاع عن قيم الديمقراطية وتكوين برلمان تونسي.

المُراوحة بين محاكاة الأحداث وتجسيدها كشفت عن تفاصيل دقيقة تخصّ حياة رائدة الحركة النسائية في تونس، ومؤسّسة الاتحاد الإسلامي النسائي التونسي، الذي كان يهدف إلى تعليم الفتيات وجمع التبرعات لفائدة طلاب شمال إفريقيا الذين يدرسون في فرنسا.

ويوضّح الفيلم مدى فشل الاستعمار الفرنسي في صدّ “للّا بشيرة” عن النضال، وتوقها إلى إعلاء مكانة المرأة التونسية في المجتمع.

وتعدّ بشيرة بن مراد رائدة الحركة النسائية في تونس، حيث أسّست سنة 1936 أول اتّحاد نسائي، وسنّها لم يتجاوز بعد الـ23 ربيعا، وكان يهدف إلى تعليم الفتيات وجمع التبرّعات لفائدة طلبة شمال إفريقيا الذين يدرسون في فرنسا.

كما ترأسّت العديد من الاجتماعات رفقة الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد. وألقت خطبا حماسية خلال اجتماعات سياسية حثّت فيها الرجال والنساء معا على المقاومة.

وتعرّضت الراحلة للإيقاف في عدّة مرات من قبل الشرطة الفرنسية، ولم تمنعها الظروف السياسية والاجتماعية آنذاك من زيارة عدد هام من المدن لتأسيس خلايا نسائية وفروع تابعة للاتّحاد النسائي الإسلامي، وقد قام المستعمر بحبسها في “الحمّام السوري” ليتّقي “شرّها”، ويمنعها من الاتّصال بالناس وتحريضهم على النضال ضدّه.

تتوالى الأحداث في الفيلم لتكشف عن نجاح هذه المناضلة في زيارة الكثير من المدن وتأسيس فروع نسائية تابعة للاتحاد النسائي الإسلامي، وهو ما دفع الشرطة الفرنسية إلى سجنها داخل “الحمّام السوري” توجسّا من قدرتها على التأثير وتكوين شعبية ثورية.

كما يُبرز الفيلم علاقة بشيرة بن مراد بالرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وفق شهادة تقول إنّه تقدّم لخطبتها قبل زواجه من وسيلة بن عمار، قائلا لها: “أنا رئيس الرجال وأنت رئيسة النساء، فلنتزوّج”، لكنها رفضته، واختارت الزهد دونه في حياتها الاجتماعية والسياسية، وفق ما جاء في شهادة أحد أفراد العائلة.

وبالتوازي مع هذه الشهادات وغيرها يُبرز بربوش في جمعه بين الوثائقي والروائي، أنه في عام 1953 تمّ استبعاد بن مراد عن المساهمة الفعلية في العمل النسائي بسبب غضب بورقيبة منها، إثر خطاب ألقته في معهد كارنو بتونس دعت فيه إلى المساواة المطلقة في الحقوق السياسية بين المرأة والرجل، في وقت كانت فيه تونس على أبواب الاستقلال.

ويقول آخرون إنّ بورقيبة أُعجب برجاحة عقلها، لكنّه في المقابل أقلقه طموحها وما ترسمه من أهداف لفائدة المرأة التونسية، الأمر الذي يمكّنها من تخليد اسمها في هذا المجال دون سواها، فتغدو منافسة له في دفاعه عن المرأة التونسية وتمكينها، وهو ما يرفضه تماما.

وما النهاية المأساوية التي عرفتها بشيرة بن مراد، وهي في خريف عمرها، إلّا دليلا على هذا الغضب السيادي المُجحف في حقّ امرأة ناضلت من أجل كرامة نساء تونس جميعا، فنُكّل بها وتمّ تهميشها معنويا وماديا، وهي التي عاشت الخصاصة والفقر حتى وارت الثرى.

ينتهي الفيلم بصور متخيّلة لبشيرة بن مراد، التي ناضلت من أجل المساواة السياسية بين الرجل والمرأة، وهي تجوب أرجاء البرلمان التونسي ما بعد ثورة 14 جانفي 2011، وسط جمع من النساء السياسيات الواقفات إجلالا لطيفها المار بينهنّ، قبل أن يعلو صوت تصفيقهنّ إكبارا لامرأة عانت الويلات لأجل إعلاء صوت المرأة التونسية في زمن ذكوري صرف، وإن ادعى بعض ساسته تحرّرهم من هذا “المطب” الجندري.

“نحن البداية.. نحن التواصل.. وليس الانتهاء، سنمضي إلى الأعالي، سنمضي إلى الآفاق وأقدامنا راسخة في هذا البلد”، بهذه الكلمات التي اقتبسها بربوش من بشيرة بن مراد، ينتهي الفيلم الذي سرد حُلما فكريا وسياسيا واجتماعيا لـ”التونسية” المنسية…

انتهى الفيلم، لكن حُلم بشيرة بن مراد بتونس أخرى تمنّتها واشتهتها، تونس المساواة في القرار السياسي والسيادي بين المرأة والرجل على السواء، مستمر…