“وحده التمويل الأجنبي قادر على التحكّم في المشهد السينمائي التونسي وتغيير جلده وهويته”.. صحفيون وسينمائيون يؤكّدون
صابر بن عامر
عرفت السينما التونسية منذ ثمانينات القرن الماضي وما قبلها بقليل، موجة ما اصطلح على تسميته بـ”سينما المؤلف”، التي اقترنت جلّ إنتاجاتها، إن لم نقل كلّها، بدعم وزارة الإشراف (وزارة الثقافة التونسية) والتمويل الأجنبي، خاصة الفرنسي منه.
وللتمويل الأجنبي، طبعا، شروطه ومستلزماته التي تقتضي أولّا، الخوض في تابو الجنس وإبراز مشاهده بداع أو دونه، منذ ثمانينات القرن الماضي، وحتى بداية الألفية الثالثة.
من هناك، ظهرت أفلام خاضت في هذا الشأن، سواء بالتصريح أو التلميح، على غرار “ريح السد” (1986) لنوري بوزيد، و”عصفور سطح” (1990)، وصيف حلق الوادي (1996) لفريد بوغدير، و”السيدة” (1996) لمحمد الزرن، و”يا سلطان المدينة” (1992) لمنصف ذويب وغيرها الكثير..
ومع بداية الألفية، سيما بعد ثورة 2011، عرفت السينما التونسية المموّلة أجنبيا، شرطا آخر، أملته المتغيّرات الحاصلة في المجتمع التونسي، ألا وهي ضرورة الخوض في ظاهرة الإرهاب، بموجب أو دونه أيضا.
وهكذا برزت أفلام: “فتوى” (2018) لمحمود بن محمود، و”زهرة حلب” (2016) لرضا الباهي، و”بنات ألفة” (2023) لكوثر بن هنية، إلى جانب الفيلمين الأخيرين “ماء العين” لمريم جعبر، و”الذراري الحمر” للطفي عاشور (إنتاج 2024) وغيرهم الكثير.
وكلا الأفلام المذكورة أعلاه، سواء منها التي خاضت في تابو الجنس، أو الإرهاب أو كليهما معا على غرار فيلم “هربة” (2020) لغازي الزغباني، لاقت الحظوة والتثمين في المحافل السينمائية الدولية خاصة، بل وتوّجت غالبيتها في المهرجانات العالمية.
فهل قدر السينما التونسية لطرق المهرجانات العالمية والحصول على الجوائز الدولية الاستنجاد بالتمويل الأجنبي وما يُمليه من التطرّق إلى ثنائية تابو الجنس والإرهاب؟ أم أنّ المشهد تغيّر اليوم؟
سؤال طرحته بوابة تونس على مجموعة من الصحفيين والسينمائيين، الذين أكّدوا مدى قدرة التمويل الأجنبي على التحكّم في المشهد السينمائي التونسي وتغيير جلده بإملاءاته واشتراطاته الممنهجة دائما وأبدا.
فائزة مسعودي: 7 أكتوبر أسقط أقنعة الغرب وتمويلاته الخبيثة
وفي هذا الخصوص تقول الصحفية والناقدة الفنية فائزة مسعودي في تصريحها لبوابة تونس: “إنّ إشكالية التمويل الخارجي للسنيما التونسية، وما تعكسه من سلبيات على مستوى الصورة النمطية التي يقع تصديرها للمشاهد في الداخل أو الخارج تمثّل مأزقا يتخبّط فيه كل من المبدع والمشاهد”.
وتسترسل: “وبما أنّ السينما هي انعكاس صادق لصورة البلاد في الخارج، يجد المبدع نفسه بين المطرقة والسندان، أي بين قلّة الإمكانيات المتاحة في بلاده والعجز عن تحقيق طموحه من ناحية، والاستسلام لرغبات المموّل الأجنبي على مستوى نوعية السينما المطلوبة أو المفروضة لتوفير إمكانيات التوزيع والمشاركة في كبرى المهرجانات الدولية، وحتى نيل جوائز تزيد من وهم تألق المبدعين ووهم وجود حركة سينمائية في البلاد واستقلاليتها، من ناحية أخرى”.
وتشدّد الصحفية التونسية الناطقة بالفرنسية، بقولها: “يكاد يكون جليا التأكيد على أنّ الحصول على التمويل الخارجي لدعم المشاريع السينمائية والقبول به، هو في الحقيقة اتفاق ضمني وسماح بالتدخل على مستوى المضمون والطرح الفكري والمقاربات الجمالية”.
ومن ثمة -تُوضّح مسعودي- تصبح المشاريع مرآة تعكس أجندات أجنبية، وتخدم مصالح خارجية، ولا تتجاوز الصورة النمطية التي يريدون تسويقها حسب رغباتهم.
وهي في ذلك، تقول: “فالمشاركة والظفر بالجوائز لا تتعدّى حسابات ضيقة وذاتية تحسم من الأول، وليس لدوافع فنية أو مقاربات جمالية مهمة أو تميّز على مستوى الخلق والإبداع”. ومع ذلك، لا تُقرّ مسعودي، أنّ لتونس العديد من الكفاءات الإبداعية التي عن توفّرت لها الإمكانيات اللازمة بعيدا عن التدخل الخارجي، تُصبح قاردة -دون شكّ- على التألّق ومُنافسة بعض الإنتاجات السينمائية الغربية.
وتخلص فائزة مسعودي في ختام تصريحها لبوابة تونس إلى أنّ طرح هذا الموضوع اليوم، أي في ما بعد 7 أكتوبر وطوفان الأقصى، يُعتبر من قبيل الأولويات المستعجلة والحارقة.
وتوضّح: “فما بعد 7 أكتوبر سقطت الأقنعة واتضحت النوايا الخبيثة، وصار لا بدّ من التحرك الداخلي، وإيجاد سبل بديلة للتمويل وتحميل السياسات الثقافية مسؤولية النهوض بالسينما التونسية خاصة، والمشهد الإبداعي العربي عامة”، وفق تقديرها.
محمد دمق: أيّ معنى للإنتاج المشترك دون ترسيخ للهوية التونسية؟
فيما يقول المخرج السينمائي محمد دمق لبوابة تونس: “لكل صناعة قوانين وأهداف، فكلّ ما يتمّ إنتاجه موجّه للتصدير ويوفّر العملة الصعبة ومواطن الشغل، لكن هذا غير ممكن في الثقافة والسينما”، وفق تقديره.
ويتساءل صاحب فيلم “دار الناس”: “هل العمل المشترك خصوصا مع البلدان الأوربية يمكن أن يخدم مصلحة البلاد اقتصاديا وثقافيا؟”.
ليُجيب: “قطعا لا، ولذلك انحصرت المواضيع المطروحة في قضيَتيِ الإرهاب والمرأة”.
ويُفسّر: “فالأمور الأخرى لا تهمه، على غرار الأفلام التاريخية، وبالتالي تُصبح السينما مرتبطة بالمهرجانات، ومن ثمة تحلق سوقا ثقافية منحطة، تحلّ محلّ الثقافة الوطنية”.
وهو يرى أنّ على السينما أن تُوجّه إلى الجمهور التونسي قبل كل شيء.
ويُشدّد على أنّ “الإنتاج المشترك إن لم توجد فيه مصلحة للثقافة والسينما التونسية، لا حاجة لنا به”، وفق تقديره.
محمد مراد غرسلي: التطوّرات الحاصل في السينما العالمية غيّرت مقاييس النجاح
في المقابل، يُقرّ الممثل ممحمد مراد غرسلي بأنّ السينما التونسية شهدت في السنوات الأخيرة صحوة نسبية على مستوى الإنتاج ونوعية الأعمال وجودتها.
ومع ذلك، يعترف أنّها “تبقى دون المستوى المأمول، خاصة من جهة الإنتاج الذي يبقى رهين الدعم المقدّم من وزارة الثقافة، وما تقدّمه المؤسسات الأجنبية الداعمة لأغلبية هذه الأعمال”.
وفي ذلك يُشير بقوله: “مع تطوّر السينما في العالم وفي تونس بالخصوص، لم تعد مسألة التطرّق إلى ثنائية الإرهاب والجنس شرطا الدعم أو نجاح الفيلم أو المشاركة في المهرجانات العالمية على اعتبار أنّ العالم والمتغيّرات الحاصلة في صلب المجتمعات أو الأحداث السياسية في كل أرجاءه يفرض فكرا ومواضيع من محيطها الاجتماعي والسياسي الجديد”.
ويستدلّ غرسلي، معلّلا طرحه بأنّ الإرهاب نال حيزا كبيرا من المشهد التونسي في العشرية الأخيرة، الأمر جعله معينا يستلهم منه المخرج مادته الفنية على غرار الفيلم الأخير للطفي عاشور “الذراري الحمر” المستلهم من حادثة واقعية صارت في تونس.
وبالتالي، يرى غرسلي، أنّ ثيمة الإرهاب باتت قضية الفنان التونسي في العديد من الأعمال بعيدا عن إملاءات الجهات الداعمة من الخارج.
كما يعتبر الممثل التونسي أنّ أفلام كوثر بن هنية “على كفّ عفريت”، و”الرجل الذي باع ظهره”، و”بنات ألفة” لاقت نجاحات في أعرق المهرجانات العالمية دون أن يكون موضوعها الجنس، وفق تصريحه لبوابة تونس.
ومع ذلك لا يُنكر غرسلي، شتغال بعض في أعمال أخرى، عل غرار فيلم “أطياف” لمهدي هميلي الذي لاقى بدوره نجاحات خارج تونس، إلّا أنّه يراه اختيارا ذاتيا من المخرج، وفق تقديره.
وهو يعتقد أنّ تطوّر السينما في العالم كان له أثر كبير في تغيير مقاييس النجاح.
محمد سفينة: ما أنتجناه هي “أفلام تونسية” وليست “سينما تونسية”
بدوره يرى الصحفي محمد سفينة أنّه منذ بدايات الطفرة السينمائية التونسية خلال تسعينات القرن الماضي ارتبط إنتاج الأفلام التونسية بالتمويل الأجنبي في جزء منه إلى جانب التمويل العمومي.
وهو في ذلك يُؤكّد أنّ للتمويل الأجنبي شروطه، قطعا، والتي من خلالها سيتمّ إنتاج أفلام على القياس.
أفلام، قال عنها سفينة “بروح محلية وفولكلورية، مع بهارات جنسية لزوم التسويق في الأسواق الغربية والمهرجانات السينمائية الأوروبية، خاصة منها الفرنسية التي تطلب هذا الصنف السينمائي حتى وإن كان طرحها سطحيا للمشاكل الاجتماعية، ولمسألة الهوية، بل وحتى لظاهرة الإرهاب، أصلا”.
ومع ذلك يُقرّ الصحفي التونسي أنّ هذا لم يمنع من إنتاج أفلام تونسية مختلفة على قلّتها.
أفلام تطرح مشاغل فنية وإنسانية حقيقية دون اللجوء إلى بهارات الفولكلور والجنس، وفق تقديره.
ويُؤكّد سفينة أنّ هذه النوعية من الأفلام وجدت ضالتها في بعض المهرجانات الجادة المؤمنة بالطرح الجدّي لمشاكل ومشاغل الجنوب من خلال السينما.
الأمر الذي جعلها تتحصّل على بعض الجوائز المهمة في مثل هذه المهرجانات، كما سوّقت لسينما مختلفة عمّا تمّ تسويقه في السابق.
ورغم طرحه الجامع بين التثمين حينا والانتقاد أحيانا، ينوّه محمد سفينة في ختام تصريحه لبوابة تونس، بضرورة الاعتراف بأنّ تونس شهدت وما تزال منذ عقود، “أفلاما تونسية” أكثر منها “سينما تونسية”، أي أنّها تجارب سينمائية، وليست مدرسة قائمة الذات.
ويُبرّر ذلك بقوله: “إننا لم نؤسّس لسينما تونسية واضحة المعالم وذات هوية فنية، كما لم نؤسّس لصناعة سينمائية تونسية حقيقية.. وأسباب ذلك عديدة، لعلّ أبرزها إكراهات التمويل الأجنبي”.