سياسة

التسفير: بين ضبابية الحقائق وجدلية التوقيت


أعاد مثول رئيس البرلمان المنحلّ راشد الغنوشي والقيادي في حركة النهضة علي العريّض وعدد من نواب البرلمان وقادة أمنيين، أمام النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، قضية التسفير إلى بؤر التوتّر، إلى واجهة الأحداث في تونس.

واحتدّ الجدل بشأن ملف التسفير والجهات التي تقف وراءه، في وقت يدقّ فيه الخبراء والمراقبون ناقوس الخطر بشأن الأزمة المالية والاقتصادية التي تشهدها البلاد بعد تراجع أغلب المؤشّرات التنموية.

وبينما ترى فئة من التونسيين أنّ حركة النهضة العائدة إلى الساحة السياسية بعد ثورة 14 جانفي/يناير، متورّطة في قضية تجنيد الشباب التونسي وتصديرهم إلى بؤر التوتّر في أكثر من مكان (ليبيا سوريا)، ترى فئة أخرى أنّ الملف سياسي بامتياز يهدف إلى تصفية الحركة وتجريف الساحة السياسية من المعارضين وتنقية الأجواء لتهيئة الأرضية أمام حكم سعيّد الفردي، معتبرة أنّ التسفير تتحكّم فيه لوبيات من النظام القديم وأجهزة مخابرات إقليمية ودولية.

قضية التسفير

فتح ملف التسفير فعليّا بعد شكاية تقدّمت بها النائب السابق بالبرلمان عن حزب نداء تونس فاطمة مسدي في ديسمبر/كانون الأول 2021، إلى محكمة عسكرية تتعلّق “بشبكات التسفير إلى بؤر التوتّر” التي أحالته بدورها إلى القطب القضائي للإرهاب، “لأنه يضمّ مدنيين وعسكريين”.

أما الجدل بشأن هذا الموضوع فكان سابقا لتاريخ تقديم الملف إلى القضاء التونسي، إذ تولّد نتيجة الصراع المستمرّ بين المكوّنات السياسية في البلاد على السلطة. ففي وقت سابق، اتّهم نواب في البرلمان حركة النهضة التي قادت حكومة الترويكا (2011-2014) بالمسؤولية عن “تسفير” الجهاديين إلى سوريا، وهو اتّهام تنفيه الحركة باستمرار.

وفي 31 جانفي/يناير 2017، صادق البرلمان التونسي على تشكيل لجنة للتحقيق في الشبكات التي تورّطت في التسفير إلى بؤر التوتّر، بعد عريضة وقّعها 94 نائبا من مختلف الكتل النيابية، لكن السجال السياسي بشأن هذا الملف حال دون تواصل أعماله.

ويؤكّد متّهمو حركة النهضة أنّها المسؤولة الأولى عن تسفير التونسيين إلى بؤر التوتّر عبر شبكات علاقات بجهات إقليمية ودولية تسّهل مرورهم إلى مناطق القتال، معتبرين أنّها تقف وراء دعم الإسلاميين في ليبيا الذين أطاحوا بالعقيد الراحل معمّر القذافي بالمقاتلين والسلاح.

كما يُعاب عليها صمتها وهي التي تُمثّل الأغلبية النيابية في البرلمان التونسي، وتأخّرها في التعاطي مع هذا الملف رغم التحذيرات المستمرّة من المراقبين بتعاظم أدوار هذه الجماعات، بما يشكّل تهديدا على الداخل التونسي، وهو ما حصل فعلا في عملية باردو (18 مارس/آذار2015) وسوسة (26جوان/يونيو2015) وبن قردان (7مارس/آذار2016).

في مقابل ذلك، تؤكّد حركة النهضة وعدد من المهتمين بملف التسفير، أنّ دعم الثوار الليبيين لم يكن وقت حكم النهضة بل كان في عهد الباجي قايد السبسي الذي تقلّد منصب الوزير الأول آنذاك، فيما أوضح مراقبون أنّ أمنيين وموالين للنظام السابق يقفون وراء “الهجرات الجهادية”.

وأكّد هذا الطرح، المحامي باديس الكوباكجي رئيس “جمعية إغاثة التونسيين بالخارج” في تصريح لوكالة فرانس برس بتاريخ 24أفريل/نيسان 2013، إذ كشف أنّ أمنيين عملوا مع نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي “سهّلوا سفر تونسيين إلى سوريا”.

وكانت الحكومة برئاسة الباجي قدّمت في أواخر 2011، شتى أنواع الدعم للثورة الليبية، إذ فتحت الحدود واستقبلت الليبيين، وغضّت الطرف عن تدفّق السلاح والمقاتلين دون أن تتّخذ إجراءً واحدا، كما تجنّبت الدخول في صراع مع الحركة السلفية في تونس لحسابات سياسية مستقبلية.

وبعيدا عن تأريخ الأحداث، يذهب المحلّلون إلى أنّ النهضة استفادت بشكل كبير من تسفير التونسيين إلى بؤر التوتّر على اعتبار أنّ الحركات السلفية تمثّل حاجزا أمام مشروعها للحكم في تونس، غير أنّ الحركة ترفض الاتهامات وتؤكّد أنّها الوحيدة التي كانت مستهدفة من قبل هذه الجماعات، مذكّرة بتهديدات أحد القياديين لوزير الداخلية آنذاك علي العريّض.

 وأوضحت حركة النهضة في بيان أصدرته قبل يومين، أنّ “موقفها ثابت ضدّ التسفير، وذكّرت بأنّ علي العريض هو أوّل من أعلم بخطر تنظيم أنصار الشريعة في 2012 عندما كان وزيرا للداخلية، قبل أن يقوم بتصنيفه تنظيما إرهابيا ويُعلن الحرب ضدّه”.

وبحسب تصريحات سابقة للناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية محمد علي العروي، فإنّ تونس منعت منذ مارس/آذار 2013 إلى الشهر ذاته من 2014، أكثر من 8 آلاف تونسي من السفر إلى سوريا، فيما كشف وزير الداخلية محمد ناجم الغرسلي في 17 ماي/آيار 2015 أنّ تونس منعت في السنوات الأخيرة حوالي 12 ألف شاب من السفر للالتحاق بساحات القتال في سوريا وليبيا، وهي السنوات التي حكمت فيها حركت النهضة أو شاركت فيها في ائتلاف حاكم.

أكذوبة نتاج التحوّل السياسي

 يربط بعض الخبراء ملف التسفير بالتحوّل السياسي والديمقراطي في تونس بعد ثورة 14 جانفي/يناير وصعود حركة النهضة إلى الحكم بطريقة متعمّدة تثير كثيرا من الشكوك حول جدوى هذا الطرح المبتور، خاصة أنّ السياقات التاريخية والاجتماعية في البلاد تُبيّن أنّ هذا الملف ليس وليد ما بعد حقبة النظام السابق بقيادة بن علي.

هذه الفرضية ساقطة عند ربط انتشار الحركة السلفية بعقم عملية التحوّل الديمقراطي وعجزه عن التقليل من شعبيتها ومن توسّع أفكارها لدى عامة التونسيين وخاصة الشباب، فالسلفية الجهادية متأصّلة في العالم العربي من شرقه إلى غربه وإن كان بدرجات متفاوتة.

وفي الحالة التونسية، فإنّ وجود السلفية والتسفير سابق للثورة وللتحوّل السياسي، إذ عرفت البلاد “هجرات جهادية” بدأت مع الحروب العربية ضدّ الكيان الصهيوني منذ عام 1948، حيث انضمّ كثير من التونسيين بمختلف توجّهاتهم (عروبيون ويساريون) إلى جبهات المقاومة الفلسطينية (الجبهة الشعبية) في سبعينات وثمانينات القرن الماضي (عملية القبية لميلود بن الناجح نومة من مدنين).

كما شارك تونسيون من ذوي التوجّهات العروبية واليسارية في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، ثم انتقل “التسفير” من المقاومة إلى الجهاد منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي، بعد أن اجتذبت التيارات الوهابية الجهادية التونسيين في أفغانستان (1979 و1989) ثم البلقان (البوسنة 1992-1995) والشيشان (1995).

ومع بدء غزو العراق في مارس/آذار 2003، غادر مئات التونسيين إلى بغداد عن طريق سوريا للجهاد ضدّ الأمريكان وشاركوا في معارك الفلوجة سنة 2014، فيما اُعتقل آخرون وأُعيدوا إلى تونس وقُدّرت أعدادهم بين 1600 و2500 مقاتل.

ويؤكّد مراقبون أنّ سجون تونس خلال السنوات السبع إلى الثماني التي سبقت الثورة، كانت عاملا أساسيا في الجمع بين الجيل الأوّل من الجهاديين العائدين من أفغانستان والشبكات القائمة في أوروبا مع الجيل الثاني الذي كان أكثر ارتباطا بالعراق، ما نتج عنه عمليات إرهابية زمن حكم بن علي وهي؛ (الغريبة في 11أفريل/أبريل2022) و(أحداث سليمان 3 جانفي/يناير 2007).

وفي سياق متّصل، كشف تقرير سابق لوكالة رويترز ضمّ شهادات من جهاديين تونسيين قاتلوا في الصومال والعراق، أنّ الظاهرة كانت في جزء منها بسبب قمع الحريات الدينية طيلة أكثر من 20 عاما من حكم بن علي.

الاستغلال السياسي

ما من شك في أنّ ملف “شبكات التسفير” قضية عادلة في انتظار الكشف عن ملابساتها والجهات التي تقف وراءها، لكن التعاطي الإعلامي والمجتمعي دفع إلى تحويلها من السياق القانوني الصرف إلى السياسي، إذ استثمرت القوى الرافضة لحركة النهضة في المشهد هذا الملف قصد محاسبتها وتصفيتها بإصدار قرار حلّها.

لذلك طرحت من حساباتها التونسيين الحاملين الفكر القومي الذين يقاتلون- ضمن كتيبة مسلحة تحمل اسم “الشهيد محمد البراهمي”، نسبة للمعارض التونسي (قومي ناصري) محمد البراهمي الذي اغتيل في 25 من يوليو 2013- إلى جانب النظام السوري وباقي حلفائه.

في السياق ذاته، غابت التحاليل والدراسات العلمية والخطط الاستراتيجية للتعامل مع هذه الأزمة، واقتصر التفاعل على منطق الاستئصال السياسي وعبث التقسيم الجغرامناطقي، الذي يُرجع المعضلة عادة إلى الأحياء الفقيرة والمدن المهمّشة ومحدودي المعرفة، والحال أنّ 40% من الذين سافروا هم من ذوي التحصيل العلمي المقبول ومن أصحاب الشهادات العليا والموظفين.

إلى ذلك، فإنّ ملف التسفير هو جملة من العوامل التي تشكّلت تاريخيا في تونس، إذ تتداخل فيه الأبعاد الأمنية (قمع الحريات بن علي) والاجتماعية (تفكك عائلي) والنفسية وكذلك الدينية، ناهيك عن البعد الاقتصادي الذي يعدّ محوريا وأحد أسباب انتشار الإحساس بالحيف والظلم، والأخير يؤدّي إلى مسلكين لا ثالث لهما، إمّا الهجرة غير الشرعية أو ما يسمى بـ”الهجرة الجهادية”.

أمّا راهنا، في ظل المناخ السياسي المتوتّر الذي تشهده البلاد منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد في 25 جويلية/ يوليو 2021 تدابير استثنائية أقال بموجبها الحكومة وعيّن أخرى وحلّ البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء إضافة إلى إصداره مراسيم ودستورا وقانونا انتخابيا جديدَين، فإنّ استدعاء هذا الملف يعدّ -وفق المراقبين- استغلالا سياسيا لأنّه لا يطرح فهما أو حلولا عمليّة على أرض الواقع.