كرس مشهد نزول القوى والأحزاب المعارضة لرئيس الجمهورية قيس سعيد المنادية بإسقاط “الانقلاب على الدستور”، حالة من الاصطفاف بين معسكر مدافع عن “الشرعية الدستورية”، وآخر مناصر لمسار “إنقاذ البلاد”.
ووسط سجال شعبي كثيف تأججه دعوات التخوين وخطابات الإقصاء، تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة للمواجهة بين أنصار قيس سعيد والمعارضين له، بما يكشف خطورة الصراع المتفاقم منذ 25 جويلية/يوليو الماضي.
وفي خضم هذا التداعيات العنيفة يأتي النزول إلى الشارع بحسب المراقبين، مثقلا بهواجس الاحتقان وفقدان السيطرة على الحراك، والعودة إلى مربع الانقسام الذي شق الساحة التونسية في مناسبات عديدة مهددا السلم الأهلي.
ومع تحذير الخبراء من التجييش الذي يرافق دعوات السياسيين لأنصارهم في الشارع من الجانبين، فإن استحضار تجربة الصراع اليوسفي البورقيبي والاحتراب الداخلي تسيطر على الأذهان، خوفا من تكرار الانقسام الحاد الذي تسببت به وما خلفته من ندوب اجتماعية ما تزال آثارها مستمرة.
دلالات التراشق بين المعسكرين
في حديثه لبوابة تونس عن مؤشرات التصعيد الخطيرة بالشارع، توقف الصحفي والمحلل السياسي سرحان الشيخاوي عند واقعة التراشق بالقوارير البلاستكية التي جدت بين المشاركين في الوقفة الاحتجاجية يوم 26 سبتمبر/أيلول من معارضي قيس سعيد، وبعض من أنصاره الذين تجمعوا خلف الحواجز الأمنية، مبينا أن المشهد حافل بالدلالات والمؤشرات، باعتبار أن التراشق بالقوارير “يمكن أن يتحول إلى تبادل للعنف بشكل أكثر خطورة في المستقبل القريب”.
“المسألة انطلقت منذ أسابيع بالتراشق بالتهم على منصات التواصل الاجتماعي، ثم انتقلنا إلى التخوين والحديث عن مؤامرات، ما مهد لخروج الصراعات من مداها الافتراضي إلى الشارع”، يضيف الشيخاوي.
ويحذر الكاتب والمحلل السياسي التونسي من تبعات تغليب الشارع على المؤسسات السياسية، حيث سيكون من الصعب تطويق الخلاف إذا بلغ مرحلة المواجهة بين الجانبين.
جذور الانقسام والتلويح بورقة التعبئة الجماهرية من كلا الطرفين ترجع بحسب سرحان الشيخاوي إلى التحركات التي سميت بمسيرات دعم قيس سعيد، والتي كان يقابلها وقفات احتجاجية من جانب القوى المعارضة له.
سيناريوهات الصدام
ويلفت الشيخاوي إلى تصاعد أعداد المشاركين في التحركات بشكل واضح، والتي تتزامن مع تحول أدوات التعبير إلى وسائل أكثر حدة، ما يدق ناقوس الخطر من المنحى التصاعدي في ظل خطاب سياسي مشحون ما ينبئ بمعركة محتملة.
وبحسب ترجيحات محدثنا أن مآلات هذه المعركة بين الجانبين ستكون تبعاتها على مستوى الشارع التونسي خطيرة، خاصة إذا ما أخذت شكل مواجهات مباشرة قد تتسبب في نتائج وخيمة، “ولا يمكن لأي طرف أن يتحمل مسؤولياتها”.
ويرجع الشيخاوي التصعيد الذي تسبب بتعميق انقسام الشارع التونسي إلى الخطاب المشحون الذي تطلقه القيادات السياسية من كلا الجانبين، سواء من الجانب المعارض لقيس سعيد أو الموالين له، وهو ما يدفع نحو سياق صدامي قد لا يمكن الخروج منه إلا بخسائر كبيرة جدا.
وتعليقا على إمكانية استعادة سيناريو الصراع “البورقيبي اليوسفي” على مستوى الشارع، لفت الشيخاوي إلى الاختلافات بين تلك المواجهة التي كانت ترتكز إلى خلفية أيديولوجية، عكس المشهد الحالي القائم على الانتماءات، متوقعا في الآن ذاته نتائج أكثر حدة وخطورة للانقسام الراهن من التجربة اليوسفية البورقيبية.
وأضاف الشيخاوي: “مآلات الصراع اليوسفي البورقبي بقيت حاضرة في ملامح الشخصية التونسية لفترة طويلة، لكن تأثيرات الانقسام الحالي وفرضيات المواجهة -إن وقعت- ستكون أكثر خطورة، خاصة فيما يتعلق بالسلم الاجتماعي الذي أصبح مهددا، كما ستكون لها أثار وخيمة على المجتمع وستسمر آثارها لسنوات طويلة”.
انتفاضة اجتماعية
بدوره يحذر الباحث في علم الاجتماع الأستاذ سامي براهم في قراءته لملامح الانقسام، من تأثيراته التي انتقلت من الطبقة السياسية إلى المجتمع وأصبح يشق حتى العائلات بين مساندين ومعارضين “لفكرة الانقلاب”.
ولم يخف براهم خشيته من تحول هذا الانقسام إلى أزمة اجتماعية نتيجة تمسك الرئيس بمواقفه ورفضه كل سبل الحوار، وبالتالي فبدلا من خروج الطبقة السياسية إلى الشارع، سينزل غيرهم من المهمشين والبسطاء لتتحول القضية من اختلاف في تقدير الموقف السياسي والقانوني، إلى انتفاضة ذات مضمون اجتماعي.
سيناريو ستكون تبعاته بحسب محدثنا باهظة على البلاد، في ظل تسرب الخلاف من الطبقة السياسة إلى الشارع، الذي يمكن أن يتحول إلى انقسام بشأن المضمون الاجتماعي.
مخاوف تحول الانقسام إلى اشتباكات ومواجهات على صعيد الشارع تظل قائمة من المنظور السيسيولوجي بحسب الأستاذ سامي براهم، باعتبار أن هذا الاشتباك بدأ من داخل البرلمان بما يمثله من رمزية للإرادة الانتخابية للتونسيين، لكن ذلك لم يمنع من حصول تجاذبات تحولت الى اشتباك بالأيدي وعنف سالت فيه الدماء.
ويستبعد سامي براهم أن تتحول هذا المواجهات مهما بلغت حدتها إلى احتراب أهلي واسع النطاق على شاكلة الصراع “البورقيبي اليوسفي”، مشددا في الآن ذاته على أن الخطر الحقيقي من تحول هذا الانقسام المجتمعي في ظل الازمة السياسية وتأثيراتها الاقتصادية إلى انتفاضة اجتماعية.
ويضيف محدثنا “الخوف في حال حدوث هذه الانتفاضة من أنها لن تنزل إلى شارع بورقيبة، بل ستكون في الأحياء الشعبية والمناطق العميقة حيث لن تستطيع الدولة كبح جماحها والسيطرة عليها”.
الانقسام السياسي في تونس ينتقل إلى الشارع … فهل يتحول إلى انقسام اجتماعي؟
