الإمام الخضر شيخ الأزهر...مسيرة علم وإصلاح من تونس إلى القاهرة
tunigate post cover
ثقافة

الإمام الخضر شيخ الأزهر...مسيرة علم وإصلاح من تونس إلى القاهرة

2021-02-28 21:40

تُعرف البلدان بأعلامها وفقهائها ومثقفيها وأدبائها وتونس بلد علم ودين بمعالمها الدينية وبعلمائها. ومن أعلام تونس الشيخ محمد الخضر حسين. قد لا يعرف الكثيرون أنّ تونسيا كان في يوم من الأيام شيخا لجامع الأزهر الشريف. هو الرجل الذي لُقّب بحكيم زمانه. رجل دين ومثقف وأديب وملتزم بقضية التحرّر من الاستعمار.

النشأة في بيئة دينية

منتصف القرن التاسع عشر هاجرت عائلة الخضر حسين من قرية « طولقة«  جنوبي الجزائر إلى منطقة الجريد في الجنوب الغربي التونسي واستقرّت بمدينة نفطة بعد أن دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر.

سنة 1876 وُلد محمد الخضر حسين ونشأ بين واحات نفطة في عائلة متدينة ومحافظة تنتهج الصوفية . عند سن 13 عاما انتقل مع عائلته إلى العاصمة لمواصلة دراسته. لُقّن القرآن الكريم تعلم الشيخ الخضر القرآن الكريم حفظا وتفسيرا، ثم التحق بجامع الزيتونة وحصل على شهادة التطويع.

تتلمذ على يد شيوخ الزيتونة البارزين على غرار سالم بوحاجب وعمر بن الشيخ ومحمد النجّار وكان لهم أثرا كبيرًا في نفسه، حتى أنه بقي يذكرهم في محطات موالية خلال مسيرته العلمية.

برز تميّز محمد الخضر حسين بين طلاّب الزيتونة وحظي باحترام الجميع وتقدير كفاءته فدخل مدرّسا في الجامعة الزيتونة ومن هناك انطلقت مسيرة عالم الدين.

مسيرة التنوير في تونس

لقي محمد الخضر حسين تجاوبا كبيرا من الطلاّب في الزيتونة وتقديرا من الشيوخ لعلمه رغم أنه في بداياته. تكوين الخضر حسين متنوع، برع في القضاء وعيّن قاضيًا شرعيًا في بنزرت وإمامًا خطيبًا لكّنّه لم يواصل في مجال العدالة بعد أن رفض العمل في محاكم تشرف عليها سلطات الاستعمار.

أسّس ابن الجريد مجلة “السّعادة العظمى” سنة 1904وهي أوّل مجلّة تصدر بتونس وأول مجلة أدبية علمية في شمال إفريقيا. نشر مقالات لتوعية أبناء الشعب وإيقاظ هممهم ضد الاستعمار. حفّزهم على العلم والثقافة والفكر وكشف لهم أساليب المستعمر لإخضاعهم.

شحذ الهمم وتحفيز العقول موهبة يتقنها جدا الشيخ الحضر حسين فكان يدعو الطلاّب في جامعة الزيتونة إلى المطالبة بإصلاح التعليم وتطوير مناهجه ويحثهم على الإضراب والاحتجاج.

 ألقى الشيخ محاضرة شهيرة عن الحرية  في نادي قدماء الصادقية عام 1906 بعنوان: “الحرّية في الإسلام” أظهر فيها فصاحته وإلمامه بعلمه وفهمه لواقع الحياة الجديدة مطلع القرن 20.

تحرّكات الإمام العالم أزعجت السلطات الفرنسية فأصبحت تنظر إليه بريبة وصنّفته عنصرًا مقلقًا رغم أنه عُرف باستقامته والتزامه.

مع ذلك، مثل رفض محمد الخضر حسين في مناظرة التدريس في جامع الزيتونة عام 1912 حدثا فارقا. لم ينجح رغم تميّزه ويقال إن أحد أبناء الشيوخ أخذ مكانه. حزّ الموقف في نفسه وضاقت به تونس حتى قرّر الرحيل إلى الشرق.

رحلة العلم

من الجزائر ثم مصر وسوريا وصولًا إلى اسطنبول ومن هناك واصل سيره إلى دمشق واستقر بها صحبة إخوته.

عمل في دمشق أستاذًا في المدرسة السلطانية حتى عام 1917 وبالتوازي مع ذلك واصل نشاطه العلمي الإصلاحي بكتابة المقالات والمؤلّفات وإلقاء المحاضرات فتموقع بصفته عالم دين وفكر بين أهل الشام.

لم يهنأ محمد الخضر حسين في دمشق بعد عام 1917 فقد ذهب ضحية الحاكم العثماني لبلاد الشام جمال باشا الذي شن حملة واسعة وسجن الشيخ التونسي بتهمة أنّه كان على علم بالحركة السّرية المعادية للأتراك. قبع الخضر حسين في السجون العثمانية 6 أشهر لكنه القضاء برأه.

الصيت الذي كسبه الخضر حسين في دمشق بين أهل العلم وفكره المستنير الحديث أغرى العثمانيّين فدُعي إلى اسطنبول (الاستانة سابقا) وعُيّن منشئا عربيّا بوزارة الحربيّة.

ومن بين مهامه أُرسل في بعثة إلى ألمانيا مدة 9 أشهر من أجل محاربة فرنسا الاستعمارية من أرض عدوتها ألمانيا فاستغل الفرصة وعمل على تغذية معاداة الاستعمار وبثّ الدّعاية في صفوف المغاربة داخل الجيش الفرنسي، وبين أسراهم في ألمانيا، لحملهم على القتال ضدّ فرنسا.

عمل الخضر حسين مع الأتراك لم يمرّ مرور الكرام فقد صدر في حقه حكمًا غيابيا بالإعدام من قبل القضاء الفرنسي. وبعد عودته إلى سوريا المستعمرة فرنسية منذ 1920، أصبح البقاء هناك خطرًا عليه ففرّ هربًا من بطش المستعمر الذي يترّصده لإعدامه وتوجّه إلى القاهرة.

الأزهر.. الحلقة الأخيرة في المسيرة

في مصر كانت المحطة الأخيرة في حياة العلّامة التونسي. حل بالقاهرة وكان عليه أن يمكث بعض الوقت لمعرفة حياة المصريّين ويكتشف الحقل العلمي والديني هناك. رحّب به العلامة أحمد تيمور في مصر وقدّر كفاءته وعرّفه على كبار العائلة التيمورية الشهيرة هناك. أصبح الخضر حسين صاحب جاه بين علماء مصر فعيّنوه في دار الكتب المصرية محررّا بالقسم الأدبي وككل مرة لم يترك نشاطه الفكري فأسّس عام 1923 “جمعية تعاون جاليات شمال إفريقيا” تهتم بالجالية المغاربية في مصر وتهدف إلى الترفيع من درجة وعيها الفكري والاجتماعي في علاقتها بالاستعمار الذي يحتل تونس والمغرب والجزائر.

حصل الشيخ التونسي على شهادة من جامعة الأزهر تمنحه إمكانية التدريس هناك فاحتك بكبار العلماء وأبرز قدراته الفقهية والفكرية واللغوية حتى نال عضوية جماعة كبار العلماء برسالته القيمة “القياس في اللغة العربية” 1950.

وبعد قيام ثورة جويلية 1952 في مصر عُرض على الشيخ محمد الخضر حسين ترأس مشيخة الأزهر فتحقّق حلمه وأصبح أول شيخ غير مصري لجامع الأزهر في أوت 1952. وبذلك حقّق حلم والدته التي كانت تقول له في صغره “تكبر يا أخضر، وتكونْ شيخ الأزهر”. وعلى الرغم من تقدّمه في السن أدى شيخ تونس الجليل مهمّته على أكمل وجه.

وكان حريصا على أن يبقى جامع الأزهر منارة علم ودين. تصدّى لكثير من الدعوات الهدامة، وكان يقول دائما:“إن الأزهر أمانة قي عنقي، أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص”.

إقامة الشيخ الخضر حسين في رئاسة الأزهر دامت فقط سنة ونصف ففي مطلع العام 1954 استقال من منصبة بحجة المرض، لكن الحقيقة هي أنه لم يقبل اندماج القضاء “الشرعي” في القضاء “المدني” وأصبح منزعجا بعد تنحي المشير محمد نجيب من حكم مصر.

بعد وفاته كشف كاتبه الخاص أنه سلّمه نصا بالاستقالة منذ توليه مهامه وأوصاه بأن لا يتردّد في تبليغ نص الاستقالة إن رأى يوما أنه مقصرُ في مهامه.

بعد أن بلغ قمة مجده الديني تفرّغ الإمام الخضر حسين إلى البحوث والكتابة وخلّف عشرات المؤلفات العلمية والفكرية والأدبية أهمها: بلاغة القرآن و محمد رسول اللّه وخاتم النبيّين ورسائل الإصلاح ومحاضرات إسلامية… قبل أن يلبّي نداء ربّه يوم 28 فيفري عام  1958 بالقاهرة ودُفن في تربة آل تيمور بوصيّة منه.

عناوين أخرى