رأي

الإعلام العمومي و”الرئاسيّة”.. جدل حول “غياب” سعيّد والمغزاوي وتغييب المناظرة والزمّال  

عبد السلام الزبيدي

لنسرد القصّة من بدايتها حتى يتّضح الحال ويتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، بعيدا عن المنطقة الرمادية وتوزّع الدماء بين القبائل.
يُذْكر أنّ جمهوريةً اسمها تونس كانت تعيش انتقالا ديمقراطيّا عرف هزّات وارتدادات كثيرة، لكنّ خطّ السير كان متّجها نحو تكريس مزيد من الحريّات، وجعل المؤسسات متغلّبةً على أهواء السياسيين ونزوع البعض نحو الفساد والإفساد وتحقيق المصالح الحزبية والذاتية.
ومن سُبل القطع مع توظيف الحكّام لمؤسسات البلاد والسعي إلى الحفاظ على مفهوم السلطة المُتَقَاسمة والموزَّعة، كان القضم من سلطات كلّ سلطة وصلاحيّاتها وإحالتها إلى هيئة مستقلّة تشترك مع صاحب السلطة الحقيقي أو المنتخب. وبذلك يكون الحدّ من مخاطر التغوّل، ومن التعسّف في استعمال الحق، ومن تحويل النزعات الفردية إلى قوانين وأوامر وقرارات وتعليمات لا تقبل الطعن.

الانتقال الديمقراطي ورفض “التغوّل”

ولتحقيق ذاك الهدف، كانت الهيئات المستقلّة التي نصّ عليها الدستور ومن قبله المراسيم والقوانين ذات الصلة. ومن بين تلك المؤسسات الحامية لاستقلالية القرارات والضامنة للحياد في العملية الانتخابية الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات
 (الإيزي) والهيئة المستقلّة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا). ولأنّ الغرض في هذا المقال الحديث عن المستجدّات المتعلّقة بالتغطية الإعلامية للحملة الانتخابية الرئاسية، سنكتفي بالتطرّق إلى هذه المسألة بالذات.
عملت هيْئتا الانتخابات والاتصال السمعي والبصري بتناغم تام سنة 2011 لتأمين انتخابات نزيهة وشفافة للمجلس الوطني التأسيسي. ولم يصدر عن المؤسسات الإعلامية أو المنظمات الرقابية المحلية والدولية والهياكل النقابية والمشاركين أنفسهم ما يرتقي إلى مستوى الشكاوى من التضييقات أو انحياز إحدى الهيئتين أو المؤسّسات الإعلامية العمومية لهذا الطرف أو ذاك. بل من الطرافة أنّ بعض الشكاوى بعدم الإنصاف، صدرت عن الطرف الفائز بالانتخابات وليس من باقي المعنيين.
وقبيل المصادقة على دستور 2014، صادق المجلس الوطني التأسيسي على القانون الخاص بالهيئة المستقلة للانتخابات. وتضمّن ذاك القانون تكليف الهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري بمهام مراقبة تغطية وسائل الإعلام السمعية والبصرية لمختلف مراحل العملية الانتخابية، علما أنّ هيئة الانتخابات تعتمد تقارير الهايكا قبل إعلان النتائج. ومن الآثار المحتملة لهذه التقارير، إمكانية تسليط خطايا أو إلغاء الأصوات. وبالرغم من أنّ قانون الإيزي ومرسوم الهايكا سابقان للدستور، فقد تمّت دسترتهما مع تضمين أحكام انتقالية لتفادي أيّ طعن في مشروعية أعمالهما.
أسند مرسوم 4 نوفمبر 2011 المنشئ للهايكا لهذه الهيئة إبداء الرأي المطابق عند تعيين الرؤساء المديرين العامين للمؤسسات الإعلامية العمومية السمعية والبصرية، حفاظا على حياد هذه المؤسسات وحماية لها وللعاملين فيها من إعلاميين وإداريين وتقنيين من التدخّل المفترض سواء من السلطات التنفيذية والتشريعية الحاكمة بل وأكثر من ذلك من مختلف الفاعلين.
وكان ما كان ضمن هذه القواعد المعمول بها من تنظيم للظهور الإعلامي للمترشّحين المتنافسين في مختلف المحطات الانتخابية سنوات 2014 و2018 و2019 ( تشريعيتان ورئاسيتان وبلدية).
وإنعاشا للذاكرة، نشير إلى أنّ ظهور المترشّحين في الإعلام العمومي والخاص كان تحت مقصلة عدّاد التوقيت، وأنّ الاستضافات كانت تخضع لمبدأي المساواة والتوازن، وأنّ الهايكا كانت سلطة فوق السلط بغضّ النظر عن الأحكام القيمية والتقييمية.
وشهد الشعب التونسي وغيره من الشعوب مناظرات بين المترشّحين للانتخابات الرئاسية، كانت إحداها من عوامل فوز المترشّح المعارض قيس سعيّد القادم من خارج منظومة الحكم والأحزاب، وغدا رئيسا للجمهورية، وهو في القائمة المضيّقة للمتنافسين على كرسي قرطاج إلى جانب زهير المغزاوي والسجين العياشي الزمال، دون اعتبار المترشّحين عبداللطيف المكي ومنذر الزنايدي وعماد الدايمي المقبولين من المحكمة الإدارية والمرفوضين من هئية الانتخابات.

ابحث عن السبب في تغيير قواعد اللعبة

وبعد سنتين من دخول الرئيس الفائز بانتخابات 2019 قصر قرطاج، قام بما سمّاه إجراءات استثنائية التي يصفها أنصاره بتصحيح الثورة ومعارضوه بالانقلاب عليها. وكان ما كان من قضمٍ لصلاحيات الهيئة المستقلّة للاتصال السمعي والبصري، إلى أنْ غدت في عداد المتآكلين ذاتيا المُضْمحلِّين. فقد نزع عنها الدستور الذي كتبه قيس سعيّد بيمينه صفة الهيئة الدستورية. واختصت هيئة الانتخابات، التي عدّل سعيّد قانونها وصلاحياتها بمرسوم، بمراقبة المؤسسات الإعلامية خلال الانتخابات تحت مسمى صلاحية الولاية العامة على العملية الانتخابية عوضا عن الهايكا.
ولسنا في حاجة إلى التذكير بأنّ شطب الهايكا من الوجود الواقعي ومن الصلاحيات أدّى إلى إحالة تسمية الرؤساء المديرين العامين من تلك الهيئة المضمحِلّة إلى رئيس السلطة التنفيذية قيس سعيّد والمترشّح للانتخابات الرئاسية. وتكفي الإشارة إلى أنّ الرئيس المترشّح أقدم على إقالة الرئيسة المديرة العامة للتلفزة التونسية عواطف الدالي في قلب الحملة الانتخابية وقبل أسبوعين من موعد الاقتراع ( الإقالة يوم 19 سبتمبر 2024) وعيّن خلفا لها شكري بن نصير. فما يبقى ليس تعيينه للدالي ثم إقالتها واستبدالها ببن نصير، وإنّما دلالات تعيين رئيس جمهورية له صفة المترشّح لمسؤول عن مؤسسة لها دور مؤثّر حتى لا نقول حاسما في الاستحقاق الانتخابي.
ومعلوم أنّ مثل هذه القرارات في مثل هذا التوقيت تفتح بوابة الأسئلة عن أسباب الإقالة والتعيين ودلالاتها. فالإقالة جاءت بعد يومين فقط من إجراء قرعة خاصة بظهور المترشّحين في التلفزة التونسية سواء بصيغة التعبير المباشر (كلمة مسجلة بخمس دقائق) أو اللقاء الحواري المباشر مدة ساعة تلفزيونية. فهل بين الأمرين علاقة سببية أو مجرد تزامن؟
وقد أفضت القرعة أن يكون المترشّح قيس سعيّد ضيفا على التلفزة العمومية مساء الثلاثاء الرابع والعشرين من سبتمبر ابتداءً من الساعة التاسعة مساءً. وهذا المعطى كان محل تقرير إخباري من القناة ذاتها نشرته هئية الانتخابات على صفحتها الفيسبوكية الرسمية. لكن مرّ الموعد دون أن نرى الرئيس المترشّح ولا توضيحا من التلفزة العمومية. وللإشارة فإنّ عضو الايزي نجلاء العبروقي صرّحت بأنّ البث سيكون الأسبوع القادم، وهو ما يخالف ما جاء في القرعة التي أشرف عليها نائب رئيس الهيئة نوفل فريخة. ومرّ الموعد المفترض لظهور المترشّح زهير المغزاوي، أي 25 سبتمبر 2024، دون أن يسجّل حضوره. وتوزّع التفسير بين تأجيل الموعد للأسبوع القادم، وبين رفض الحضور احتجاجًا على التلفزة التي لم تبرمج المناظرة.
وترتّب على هذا الوضع متشابك الأبعاد والدلالات جدل لم نختر أسلوب النظر في تمظهراته الآنية، وإنّما اخترنا سرد واقع مراقبة العملية الانتخابية زمن الانتقال الديمقراطي. ذلك الزمن الذي قضمت فيه هيئات دستورية صلاحيات مؤسسات منتخبة حفاظا على الديمقراطية ذاتها. زمنٌ تمّ فيه فرض المناظرة على كل المترشّحين. زمنٌ تمّ فيه تمتيع مترشّح (نبيل القروي) بالسراح من السجن لخوض حملة متكافئة. زمنٌ اعتبر فيه المترشّح السابق والرئيس الحالي أنّ سجن مترشّح أمرٌ يمسّ من جوهر المساواة.
  لكن في هذا الزمن يقبع المترشّح العياشي الزمال في السجن، ويطالب المترشّح زهير المغزاوي بتنظيم مناظرة من الإيزي ذات الولاية العامة التي أحالت المسؤولية إلى التلفزة العمومية التي يشرف على تسييرها مسؤول تم تعيينه في قلب الحملة الانتخابية من قبل رئيس هو نفسه مترشّح.