ثقافة

الأعمال الناطقة بالعربية.. الحلقة المفقودة في الدراما التونسية!؟

“الدراما الناطقة باللغة العربية تُفهم في سياقها التاريخي والمجتمعي وهو ما أنكرته التلفزيونات التونسية بصنفيها العمومي والخاص”.. مثقّفون وصحفيون تونسيون يُصرّحون

صابر بن عامر

“دعبل أخو دهبل” (1995) لنورالدين شوشان، “بنت الخزاف” (1997) للحبيب المسلماني، “خضراء والكنز” (1998) لعبدالرزاق الحمامي، والعمل التونسي-السوري المشترك “حنظلة أبو ريحانة” (1995) لفواز عبدلكي، كلّها أعمال تونسية ناطقة بلغة الضاد مثّلت في أواسط التسعينات من القرن الماضي، طبقا شهيا يُرافق الصائم التونسي غداة الإفطار.

أما البرامج الموجّهة إلى الأطفال، فمثّلت “ضيعة محروس” بجزأيها (1995 و1996) للمنصف الكاتب، و”عالم الأستاذ خبير” (بداية الألفية) لمحمد رشاد بلغيث، خير ونيس للطفل وذويه خارج الموسم الرمضاني، علّمت أجيالا وزادت معارفهم العلمية ومكاسبهم اللغوية.

كوميديا فانتازية وبرامج ثقافية توعوية انتصرت للغة الضاد، في زمن التلفزيون الواحد والقناة الواحدة، وغداتها بقليل، إثر تعدّد الفضائيات العربية التي اجتاحت البيوت التونسية بشكل تسونامي أواسط التسعينات.

لكنّها غابت عن المشهد التونسي مع بداية الألفية الثالثة، فهل يعود ذلك إلى رحيل بعض كتابها كعلي محسن العرفاوي صاحب “دعبل أبو دهبل” و”بنت الخزاف” و”خضراء والكنز”، و“حنظلة أبو ريحانة”، والطاهر النجار المُشارك في كتابة “ضيعة محروس” إلى جانب محمد بن محمود.

أم أنّها لم تعد عنصر جذب للمُشاهد في زمن المنصات والديجيتال وتعدّد الوسائط البصرية والتكنولوجيات الحديثة؟ أو أنّ الداعمين والمُستشهرين لا تعنيهم مثل هذه التجارب؟

أسئلة طرحتها بوابة تونس على ثلة من المثقّفين والصحفيين التونسيين فكان هذا التقرير.

أسمهان فرجاني: العيب فينا لا في اللغة العربية

في تصريحها لبوابة تونس، قالت الكاتبة المسرحية والروائية التونسية أسمهان فرجاني: “علينا الاتفاق أولا، أنّ اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي جزء من هوية الإنسان الفردية والجماعية، فاستخدام اللغة العربية، ليس مجرد كلمات للتعبير، بل هي انعكاس لنظام قيمي، حضاري، واجتماعي كامل”.

وتسترسل مديرة مهرجان “نوّار الملح”: “لا أتّفق مع من يرى أنّ اللغة العربية، حاليا، خسرت الرهان أمام اللغات الأجنبية، خاصة بالنسبة إلى الأطفال والناشئة، إذ إنّ تجربة اليابان تفنّد كل ذلك، باكتساحها مجال الأنيميشن بلغتها الأم، مُستغلّة نجاحها في هذا المجال للتسويق لثقافتها وتاريخها”.

وتتساءل: “إذن، هل المشكل بالنسبة إلينا يكمن في اللغة العربية؟ّ”.

لتسترسل مُجيبة: “أبدا، بل في المواضيع المطروحة، وفي التقنيات المستعملة، دون أن ننسى أيضا الإمكانيات، خاصة في زمن الديجيتال، واحتدام المنافسة، بين عالم يحترم الاختصاص في الكتابة، ويدرس المشاريع الفنية من جميع الجوانب، حتى يضمن النجاح، وبالتالي يتخلّص من سيطرة المُستشهر، وبين عالمنا الذي يرزح تحت ضغط نسب المشاهدة، والمُستشهرين، والكلفة الأدنى، فيقع في فخ استسهال مثل هذه المشاريع، بعيدا عن أهل الاختصاص”.

وهنا تُقدّم صاحبة رواية “مرآة الخوف” حلا لهذه المعضلة بقولها: “لو قامت التلفزة الوطنية بالتنسيق مع وزارة الثقافة مثلما كانت تفعل قديما، بتسجيل الآلاف من المسرحيات للأطفال باللغة العربية، المدعومة كل سنة من قبل وزارة الثقافة، لكانت لدينا الآن منصة تزخر بأعمال جيدة، وبمئات الأغاني للأطفال، بإمكانها المساهمة في تنشئة أجيال على القيم الإنسانية، وترغيبهم في اللغة العربية، وترسيخ هويتهم التونسية”.

راضية نصريةالاستثمار في الأعمال الناطقة بلغة الضاد مغامرة محفوفة بالإفلاس

في المقابل، ترى الحكواتية التونسية راضية نصرية أنّ غياب الدراما الناطقة باللغة العربية يعود أساسا إلى التطوّر المذهل للتكنولوجيات الحديثة للاتصال والمعلومات، الأمر الذي فاقم بشكل كبير عدم إقبال الجمهور العريض على الدراما باللغة العربية، فأصبح التوجّه إلى منصات التواصل الاجتماعي والمحامل والمنصات الإلكترونية أسهل الطرق وأقصرها.

وتسترسل: “كما أنّ الأمر المتعلّق بالدراما بصفة عامة لا يُفهم دائما إلّا في سياقه التاريخي والمجتمعي، ويرتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة المجتمعات وتنوّعها وتحوّلها”.

وهي في ذلك ترى أنّ الدراما كغيرها من التجليات الفنية الأخرى تتأثّر كثيرا بوعي المجتمع وطبيعته، وبالتالي فإنّ النزوع إلى الدراما الناطقة بالعربية أصبح شحيحا ونادرا ويقتصر فقط على بعض المجالس النخبوية، ولا يُمكن اعتباره جماهيريا.

وتُؤكّد نصرية أنّ الاستثمار في الأعمال الناطقة بلغة الضاد، بات لدى وسائل الإعلام وشركات الإنتاج مُغامرة غير مضمونة النتائج، على اعتبار أنّها لا تشهد إقبالا كبيرا.

ومن ثمّة -ترى راضية نصرية- أنّها لن تُوفّر للجهات المنتجة والمسوّقة عائدات مالية كافية لسدّ احتياجات العمل في أقصى الحالات.

عامر بوعزّة: غياب المشروع الثقافي التونسي أقصى الدراما الناطقة بالعربية من المشهد

وعلى عكس الحكواتية راضية نصرية يرى الكاتب الصحفي التونسي عامر بوعزّة أنّ ما تُنتجه القنوات العربية من أعمال سنويا، يُبيّن أنّ المسلسلات الناطقة باللغة العربية الفصيحة ما تزال مطلوبة لدى متفرّج اليوم، ولها سوق رائجة، سواء كانت مضامينها تراثية أم لا؟

ويُشدّد بوعزّة على أنّ ذلك يدخل في إطار رؤية لعملية الإنتاج تشمل سوقا واسعة تضمّ كلّ المتحدّثين بالعربية في مختلف أصقاع العالم.

وأبرز في تصريحه لبوابة تونس أنّ المنصات الرقمية تمثّل هنا رافعة مهمّة لهذه الأعمال، حيث تتجاوز قدراتها الاتصالية بكثير حدود البث الفضائي.

وفي ذلك يُوضّح بوعزّة أنّ “ما يحدث عندنا هو تقلّص حدود الرؤية التي تقف وراء عملية الإنتاج الدرامي”.

ويسترسل: “ففي ظلّ غياب المشروع الثقافي، باتت بوصلة جلّ الأعمال تستند إلى قاعدة العرض والطلب وتختصر آفاقها في حدود السوق المحلية ورغبات المُستشهرين الذين أضحوا المتحكّمين الحقيقيين في مضامين الإنتاج الدرامي وتوجهاته، وتفسّر كل أشكال الهبوط الأخلاقي والتدني اللغوي فيها بعبارة شهيرة (ذلك هو الواقع)، وهو أمر غير دقيق بالمرّة”، وفق تقديره.

وعن موجة الدراما الناطقة باللغة العربية في أواسط تسعينات القرن الماضي، يقول عامر بوعزّة: “كلّ تلك الإنتاجات انتمت إلى مرحلة من تطوّر التلفزيون التونسي ما تزال فيها عملية الإنتاج خاضعة لتصوّر ثقافي ومجتمعي شامل، ولا يمكن فصل ذلك عن الإرادة السياسية التي مثّلت خلفية عامة لهذا التصوّر”.

وهو يرى في غياب هذه الأعمال النوعية -وفق توصيفه- جزءا من أزمة شاملة سببها تخلي القطاع العام عن دوره في وضع تصوّر شامل للإنتاج الدرامي بمختلف فروعه التي تشمل المسلسلات الاجتماعية، والسلسلات الهزلية، والمعالجات التاريخية.. انطلاقا من أهمية هذا الإنتاج بوصفه قوّة ناعمة توجّه إلى الداخل أساسا، لكن يمكن أن تكون أيضا أداة للانتشار الثقافي في الخارج”.

محمد سفينة: الدراما الناطقة بالعربية وجدت ضالتها في الإذاعة

ويرجع الصحفي محمد سفينة سبب غياب الدراما الناطقة بالعربية عن المشهد التونسي، إلى السياسة المُمنهجة التي ما انفكّ يعتمدها أصحاب القنوات التلفزيونية الخاصة، التي عوّدت المُشاهد على نوعية بعينها من الدراما التلفزيونية، وجعلها هي المرجع، وبالتالي عنصر جذب للداعمين والمُستشهرين.

وفي ذلك يلوم سفينة الإعلام العمومي، والمتمثل في التلفزة الوطنية، استقالته من الخوض في إنتاج الأعمال الدرامية الناطقة بالعربية بتعلّة كلفتها الإنتاجية العالية.

والحال -وفقه- أنّ السبب الحقيقي وراء هذا الانسحاب، النسج على منوال القنوات الخاصة في بعض “توجّهاتها الدرامية”، رغم أنها مرفق عمومي، ليس من دورها منافسة القنوات الخاصة.

وتأكيدا لطرحه يستشهد سفينة بنسب المتابعة العالية للأعمال الدرامية الإذاعية الناطقة باللغة العربية، والتي ما تزال الإذاعة التونسية العمومية بمختلف محطاتها تنتجها ضمن هيكل مصلحة الدراما، وتُذيعها خاصة خلال شهر رمضان، محقّقة النجاح تلو الآخر، وفق تقديره.

ويخلص محمد سفينة في ختام تصريحه لبوابة تونس إلى أنّ الدراما التلفزيونية الناطقة باللغة العربية، حتى وإن غابت على مستوى الإنتاج في العشريتين الأخيرتين، إلّا أنها لم تغب عن المشهد، بل يجزم أنّها ما تزال حاضرة في ذهن المتلقي وذائقته، وإن بالإعادات.

فوزية ضيف الله: المشهد التونسي يشهد تغريبا خطيرا للتلقي الدرامي وإنتاجه

بالتوازي تقول الناقدة والأكاديمية فوزية ضيف الله: “لا أتصوّر أنّ المشكل آت فقط من هيمنة التكنولوجيا، ولكن من غياب البرمجة لها واستسهال البرامج الهزلية الناطقة باللغة العامية، على عكس الدراما التلفزيونية الناطقة بالعربية التي رافقت فترة تكونّها النفسي والأدبي والفني، وفق توصيفها.

وتحصر الباحثة التونسية أسباب غياب الدراما الناطقة بالعربية عن المشهد التلفزيوني التونسي في النقاط التالية:

أولا، هيمنة البرامج السهلة والسريعة باللهجة التونسية أو الريفية.

ثانيا، استفحال الانشداد للتكنولوجيا والدخول في تغريب خطير للتلقي الدرامي وإنتاجه.

ثالثا، عدم إتقان الكتابة بالعربية، وكذلك عدم إتقان نطقها من قبل العديد من الممثلين.

رابعا، غياب نصوص قوية مدروسة، لأنها تحتاج دعما ماليا، ولذلك يتمّ استسهال السيناريو واستسهال التقمّص من خلال اعتماد مشاهد هزلية ضعيفة، فاقدة للعمق.

خامسا، غياب البرمجة والتنسيق بين المنتجين وكتاب السيناريو، وذهاب الدعم غالبا إلى غير مُستحقّيه، بعيدا عن التقييمات المُستندة إلى معايير الكفاءة الإبداعية.

سادسا، التركيز على جمهور غير مثقف، لا يبحث إلّا عن الضحك السطحي.

سابعا، التركيز على أولويات تجارية ربحية، تُحقّق نسبة مُشاهدة سريعة ومُتاحة على الفور.