بوابة تونس – طهران
كشف اغتيال الإيراني محسن فخري زده، آخر ضحايا اغتيالات العلماء والعاملين في الملف النووي الإيراني، عن ثغرات واضحة في الدرْع الإيراني الأمني؛ ولا سيما بعد التفجير في موقع ((نطنز النووي)) قبل خمسة أشهر، واعتراف إيران بأنّ ما حدث كان عملاً إرهابياً، الفجوات التي أحدثتها هذه الثغرات، ستكون دون شك فُسْحة جديدة، لتعميق الخلافات الداخلية بين أروقة النظام الإيراني، ولاسيما حول أوراق السياسة الخارجية.
ثغراتٍ أمنيةٍ تزداد في طهران…ممرات داخلية:
الروايات الثلاثة المتعاقبة حول عملية اغتيال الإيراني فخري زادة، ترسم شكل خطة مدروسة بدقة لتنفيذ هذه العملية، ففي البداية نشرت التصريحات الحكومية، أنّ الاغتيال تمّ تنفيذه بتفجير سيارة مُلغّمة من نوع نيسان، كانت مركونة بالقرب من محل عبور سيارة فخري زادة، ثمّ أعادت السلطات الإيرانية لتُضيف رواية ثانيةً، وهي: أنّ تفجير السيارة كان لمُجرّد إيقاف موكبه فيما تمّ اغتياله عبْر إطلاق الرصاص من سيارة أخرى، تحمل مسلّحين كانت بالقرب من المكان، كما تناقلت وسائل الإعلام رواية أخرى، هي وجود شخص انتحاري في مكان الاغتيال، كل هذا على الطريق العام في منطقة آبسرد قرب دماوند، المُؤدِّي إلى العاصمة طهران.
إذن كل هذه الروايات التي ستكون واضحة لاحقا، مع نشْر تقريرٍ رسْميٍّ عن الحادثة من قِبَل السلطات الإيرانية، تعْكس بشكل أو بآخر حجْم الاختراق الأمني، وضعف الأجهزة المعْنية في إيران، لم يُخْفِ قائد الحرس الثوري الأسبق، وأحد راود الجهاز الأمني مطلع الثورة الإسلامية محسن رضائي، تخوّفه ممّا آلت إليه حال البلاد، وسارع بعد عملية الاغتيال إلى إرسال رسالة إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني، يطالبه فيها بتعزيز قُدُرات أجهزة الأمن والاستخبارات بشكل جدي أكثر من السابق.
تخوين روحاني
في زاوية أخرى من عملية الاغتيال، اصطفّت جبْهة داخلية من مُعارضي الرئيس الإيراني حسَن روحاني؛ لِتصِفَه بالخائن؛ وتتّهمه بالضلوع في العملية، المفارقة أنّ بعض المُغرِّدين مجهولي الهوية، ربطوا تصريحًا سابقًا لروحاني وعَد فيه بحدوث أمر مهمّ؛ انتظرته البلاد لسنوات نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، أي: بالتزامن مع عملية الاغتيال، ممّا أثار وسم: #روحاني_خائن على شبكات التواصل الاجتماعي، فيما رأى آخرون على الضّفة السياسية المؤيِّدة لحكومة روحاني، أنّ من المُحْتمل أنْ يكون الاغتيال حدَث بممرٍّ داخليٍّ عبْر طهران؛ لتعقيد أوضاع الحكومة الحالية، التي تمُرّ بمأزقٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ حرِجٍ.
يُمكن لمْس التوتر الداخلي في أرْوِقة الساسة الإيرانيِّين؛ عبْر تصريح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يوم الأحد 29/ 11؛ حيث كشف فيه: أنّ “بعض الأصدقاء يُلوِّحون لأمريكا، وأرسلوا لها أنّ هذه الحكومة – أي حكومة روحاني- لن تبْقى، والأفضل أنْ تتعاملوا معنا”، مضيفاً: “أنّ هؤلاء الأصدقاء لديهم دعاية قوية ومحْميِّين”.
لم يُصرِّح ظريف بوضوح من هم الأصدقاء، لكنّ من الواضح أنّ تزامن هذا التصريح بما يحْدُث اليوم، من تبادل تُهَمٍ في الداخل الإيراني حول مسؤولية الانفلات الأمني، الذي أدّى إلى اغتيال فخْري زادة، يكشف المزيد من الصراع الداخلي الإيراني – الإيراني.
اغتيال فخري زادة أو اغتيال الدبلوماسية:
رأى عدَدٌ من المحلِّلين السياسيِّين في الداخل الإيراني وخارجه، أنّ اغتيال محسن فخري زاده؛ سيُقوِّض العمل الدبلوماسي المحتمل، لعودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق النووي، مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض خلال الأشهر المقبلة، وفْق تقريرٍ لمُحلِّلِ الشّؤون الدولية جوليان برغر في صحيفة الغارديان: بأنّ اغتيال فخري زاده سيُصعِّب مُهمّة إنقاذ الاتفاق النووي، الأمْر الذي انْعكس بسرعة في طهران؛ حيث اتّخذ البرلمان الإيراني اليوم قرارًا لمناقشةٍ عاجلةٍ خلال 72 ساعة، لمشروع “قرار الإجراءات الاستراتيجية لإلغاء العقوبات”.
ويتضمّن هذا القرار عدّة نقاط أبرزُها: (إنتاج ما لا يقلّ عن 120 كغ من اليورانيوم المخصب بنسبة (20٪) سنويًّا، ووِقْف التنْفيذ الطّوْعي للبروتوكول الإضافي)، بالطبع هذا القرار في حال المصادقة عليه يوم الثلاثاء (الأول من ديسمبر)، سيكون بمثابة انسحاب إيران من الاتفاق النووي.
يُذكر أنّ البرلمان الإيراني الحالي الذي انتخب مطلع عام 2020، هو من الأكثرية الأصولية الساحقة المعارضة لحكومة روحاني، وسياسة التعامل مع الغرب، والمفاوضات، والاتفاق النووي، وتمكّن هذا البرلمان اليوم من توظيف حادثة اغتيال الإيراني فخري زادة؛ لتسريع مناقشة هذا القرار القومي، وبالتالي إجبار روحاني على تحمُّل ضُغوطٍ أكثر في الأشهر القليلة المُتبقية له من ولايته، وربما لاحقاً محاسبته.
تشكيك الشارع الإيراني بشأن شخصية “العالِم”:
مع غروب يوم الجمعة وتناقض الأخبار، حول عملية اغتيال شخص مسؤول في الحقل النووي الإيراني، ظهَر اسم محسن فخري زادة بوصْفه عالم نووي للمرة الأولى بوضوح في الساحة الإيرانية، مدير الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية علي أكبر صالحي، تحدّث عنه قائلاً: “كان مُخْتصًّا في الفيزياء النووية والهندسة النووية، وأطروحته العلمية في مرحلة الدكتوراه كانت قيِّمة جدًّا في المجال النووي، لم يتمكّن الشهيد من عرْض أغلب إنجازاته العلمية؛ بسبب موقعه ومسؤوليته في منظّمة البحث والتطوير في وزارة الدفاع”. جاءت هذه التوضيحات على لسان عدَدٍ من المسؤولين في اليوم التالي لعملية الاغتيال، ومع منْحه لقَب: “شهيد النووي”، ولاسيما مع تشكيك الكثير من المتابعين الإيرانيِّين على السوشال ميديا، في هوية الضحية فخري زادة من الناحية العلمية.
تساءلت الصحفية الإيرانية سالومه سيدنيا، عن سبَب عدم نشْر سيرة ذاتية عن فخري زاده وإنجازاته العلمية، فيما أيّد أغلب الشارع الإيراني أنّ الشخصية المسْتهدفة بالاغتيال شخصية أمنية، وتحْمل الكثير من الأسرار حول الملف النووي الإيراني، أكثر ممّا هي شخصية علمية لم يُنْشر حتّى بعد وفاتها أي بحْثٍ علميٍّ لها.
الأسئلة التي طرَحها الشارع الإيراني، كانت تتعلق بمدى الوثوق بمعلومات النظام الإيراني، بشأن هذه الشخصية من الناحية العلمية، فليس هناك مقالات أو كتُب علمية باسمه لتُكْسِبَه صِفَة العالِم، فيما تسْتنِد الرواية الرسميّة للنظام الإيراني، إلى أنّ ذِكْر اسم فخري زاده في تقاريرَ لرئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، ووصْفه إياه برئيس مشروع نووي سرّي لإيران، يعْكس أهمية الرجل في الملف النووي، ويُقدِّم دليلاً واضحًا على استهدافه من قبل أعداء طهران، لكنْ في الوقت نفسه لم يتبنّى الكيان الصهيوني عملية الاغتيال الأخير حتى الآن.
بطبيعة الحال كل ما سيحدث في طهران في الأيام المقبلة، سيكون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بعملية اغتيال لم يُعرَف حتّى الآن مُرتكِبِيها، وشُعاع هذه العملية يحمل بُعْدًا داخليًّا وخارجيًّا، سيأزِم معيشة المواطن الإيراني في ظلّ ظروف اقتصادية حادة جدًّا، من جهة أخرى يرى الشارع الإيراني أنّ الانتقام القاسي، الذي ينادي به المحافظون في إيران دائمًا، لن يحْمل سوى نكْبةٍ جديدة لإيران، كحادثة سقوط الطائرة الأوكرانية، التي تسبّب بها صاروخ إيراني خاطئ، أوقع بطائرة مدنيّةٍ في مجالها الجوي.