تونس رأي سياسة

اعتبر تنقيح القانون الانتخابي اغتيالا للديمقراطية.. سعيّد أمام اختبار أخلاقي

عبدالسلام الزبيدي 

معتقلو 25 جويلية

قدّم رئيس الجمهورية قيس سعيّد للشعب التونسي سردية تبريرية لما أتاه من إجراءات استثنائية في عتمة الخامس والعشرين من جويلية 2021.

المقوّم الأوّل للسرديّة “تعطّل السير الطبيعي لدواليب الدولة” استنادًا على الفصل 80 من دستور 2014 الذي أقسم على الحفاظ عليه.

ومن مظاهر ذلك التعطّل العجز عن تلبية حاجيات الشعب من التلاقيح ضد وباء كورونا لأسباب ما تزال مجهولة إلى الآن، وفقدان الخدمات الأساسية والحياتية خاصة في بعض المستشفيات. ذاك ما صدع به، ولسنا في وارد التقصّي للإثبات أو النفي.

أمّا المقوّم الثاني فيمكن وصفه بالفساد المؤسساتي بأوجهه المتعدّدة.

ومن أبرز هذه الأوجه الفساد التشريعي ليس لخدمة اللوبيات المالية والاقتصادية لأصحاب الاحتكارات والعائلات النافذة، وإنّما الفساد السياسي كذلك خدمةً للسلطات القائمة وامتداداتها.

وبمقتضى هذا الصنف من الفساد، يتحوّل مجلس نواب الشعب إلى وظيفة تشريعية تخدم الأهداف السياسية لشخص بعينه أو حزب، بل وأكثر من ذلك جهات أو دول أجنبية.

مواقف سعيّد قبل أن يسكن قرطاج 

ومرّة أخرى نشير إلى أنّنا لسنا بصدد اختبار هذه المقولات والتثبت من مدى مطابقتها للواقع، فيكفي التأكيد على أنّ قيس سعيد أعلن رفضها مرارا وتكرارا عندما برز للفضاء العام بعد أشهر من ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي، وأثناء الحملة الانتخابية لرئاسيات 2019، وبعدما سكن قصر قرطاج، وخلال قيامه بإجراءات 25 جويلية وانفراده بالسلطتين التنفيذية والتشريعية.

ومن ذلك رفضه المطلق للمبادرة التشريعية التي نسج خيوطها رئيس الحكومة الأسبق والعازم حينها على الترشح للانتخابات الرئاسية يوسف الشاهد ( 2019).

ويتمثّل جوهر المبادرة التشريعية في إقصاء كلّ من استخدم الإعلام والجمعيات الخيرية خدمةً لأغراض سياسية وانتخابية.

ومعلوم أنّ المستهدف بهذا النص هو رجل الأعمال وصاحب مؤسسة إعلامية وجمعية خيرية نبيل القروي.

وكان ما كان من رفض رئيس الجمهورية الراحل الباجي قايد السبسي توقيع ذاك النص الإقصائي، وتمكُّن القروي من بلوغ الدور الثاني منافسا للرئيس الحالي قيس سعيّد.

وقد كان موقف سعيّد في ذلك الوقت مرجعا لدى عموم التونسيين، حيث رفض  رفضا مطلقا تلك المبادرة التشريعية ووصفها بأنّها “اغتيال للديمقراطية” و”اغتيال للجمهورية”، معتبرا إيّاها محاولة من الماسكين بالسلطة لاستعمال التشريع (مجلس النواب) للبقاء في مواقعهم والحفاظ عليها، وبرّر موقفه بعدم معقولية تغيير القانون الانتخابي (قواعد اللعبة) قبيل الانتخابات.

واستشهد سعيّد لوسائل الإعلام التونسية بمراجع غربية في القانون فضلا عن مواقف الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول.

فجوهر موقف سعيّد يقوم على الدعائم التالية: عدم استعمال التشريع كوظيفة لخدمة السلطة القائمة، رفض تغيير قواعد اللعبة أو القانون الانتخابي قبيل الاستحقاق ذي الصلة، التأكيد على البعد الأخلاقي والقِيمي في العملية السياسية.

وهذا الموقف القانوني والأخلاقي كان من بين العوامل الأساسية التي جعلت التونسيين ينتخبون الأستاذ المساعد في القانون الدستوري، ذلك الأستاذ النظيف بمعنى غير الفاسد قيميا وأخلاقيا، إذ لا علاقة لوصفه بالنظيف بالمسائل ذات الصلة بالحفاظ على المال العام وعدم التواطؤ مع اللوبيات لسبب بسيط يتمثّل في أنّ السيرة الذاتية لسعيّد خلو من أيّ خبرة أو اختبار له في هذا المجال.

اختبار حقيقي للرجل النظيف 

وإذا كان الوضع على هذا الحال تاريخيا وسياسيا، فإنّ الرئيس الحالي أو المنتهية ولايته أمام اختبار سياسي وقيمي  بإمكانه أن يُكسبه مكانةً أخلاقية أرفع بكثير من مكانته السابقة.

فرفضه السابق لـ”قانون الشاهد” كان من موقع أكاديمي ومعارض، أمّا الآن فإنّ المستفيد المفترض من مشروع القانون الذي سنوضح معالمه لاحقا هو سعيّد نفسه.

فلنتخيّل، بغض النظر عن مدى واقعية هذا الخيال، أنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد يرفض التوقيع على مشروع قانون تغيير القانون الانتخابي لأسباب عديدة، من بينها ذات الحجج العلمية والقيمية الواردة أعلاه.

ألا يصبح سعيّد الرجل النظيف بشكل مضاعف، فقد اكتسب الوصف سابقا دون اختبار حقيقي، وليُوقِّع جدارته بهذا الوصف من خلال رفضه التوقيع.

أمّا إذا كانت المصادقة والتوقيع والنشر والتنفيذ قبيل أيّام من الاقتراع المقرّر يوم 6 أكتوبر القادم، فمن الضروري مراجعة الكثير من الأحكام القيمية، لِتزول الأوهام كلّ الأوهام، وتنكشف حقيقة تحويل التشريع والقضاء إلى وظيفتين بعد تجريدهما من وضع السلطة ومقامها.

ما أشبه اليوم بالبارحة، ففي خطوة ذكّرت الشعب التونسي بما أتاه رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد، فاجأ البرلمان التونسيين بعودة مبكّرة من العطلة التي أصدر فيها رئيس الجمهورية مرسومين.

وأعلن المجلس أمس السبت 21 سبتمبر 2024 أنّ لجنة التشريع العام تعقد يوم الاثنين 23 سبتمبر الجاري جلسة للنظر في مقترح قانون أساسي  يتعلق بتنقيح بعض أحكام  القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء.

وأشار المجلس ضمن رزنامة عمله ليوم الغد الاثنين إلى أنّ الجلسة تتضمن الاستماع لممثلي النواب الذين تقدموا بمقترح القانون خلال الحصة الصباحية وممثلي وزارة العدل من بعد زوال اليوم ذاته، مع إقرار استعجال النظر.

ويذكر أنّ 34 نائبا أودعوا الجمعة 20 سبتمبر مقترح قانون أساسي لتنقيح بعض أحكام القانون الأساسي للانتخابات والاستفتاء الصادر سنة 2024.

وجاءت المبادرة حسب شرح الأسباب على خلفية “اختلافات وصراعات في القرارات المتخذة والمواقف المعلنة من قبل كل من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمحكمة الإدارية تنذر ببوادر أزمات محتملة وبخطر داهم يهدّد المسار الانتخابي، وينذر بإرباكه وإدخال البلاد في متاهات من شأنها أن تبعدنا عن انشغالات عامة الشعب وانتظاراته”.

وتعلّقت التنقيحات المقترحة بالخصوص بإلغاء دور المحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات وتعويضهما بمحكمتَي الاستئناف والتعقيب بتونس في النزاعات المتعلقة بالترشحات للانتخابات الرئاسية.

ونصت المبادرة بالخصوص على أن تنطبق أحكام هذا القانون على النزاعات الجارية في تاريخ صدوره والمتعلقة بالانتخابات الرئاسية 2024 مهما كانت الجهة القضائية المتعهدة بها وفي أيّ طور من أطوار التقاضي، أيّ أن القانون سيكون له أثر رجعي.

نواب: لن نكون شهّاد زور 

وتلخّصت أقوال أساتذة القانون في تونس بأنّ هذا الذي يجري بأنّه “سابقة” و”عبث” وتغيير لقواعد اللعبة قبل أسبوعين من الاستحقاق الانتخابي.

وكشف هؤلاء الخبراء عن الدوافع الحقيقية لهذه المبادرة التشريعية.

إنّها قطع للطريق أمام المترشّحين المقبولين من المحكمة الإدارية والمرفوضين من هيئة الانتخابات عبداللطيف المكي ومنذر الزنايدي وعماد الدايمي من التظلّم أمام المحكمة الإدارية ممّا قد ينتح عنه إبطال كل الاستحقاق الانتخابي.

وتهاطلت التفسيرات لهذه المبادرة التي أقصت المحكمة الإدارية ومحكمة المحاسبات لفائدة القضاء العدلي مع شطب نظر الدوائر التعقيبية مجتمعة والاقتصار على دائرة واحدة.

وجماع التفسيرات يعود إلى أنّ الهندسة من خلال القضاء العدلي تحقّق الأهداف بطريقة أيسر، والمقصود بالأهداف هو ما ورد في شرح أسباب التنقيح.

وكان جوهر مواقف بعض النواب الرافضين على غرار ياسين مامي ومحمد علي وحمدي بن صالح وأحمد السعيداني ومختار العيفاوي وهشام حسني وعبدالجليل الهاني، بأنّ هذه المبادرة التشريعية “عبث بالدولة ومستقبلها”، وأنّهم “نواب شعب، وليس نواب سلطة تدوس على إرادة الشعب”، وأنّه لن يكون البرلمان شاهد زور”.. ذاك الجوهر والباقي تفاصيل تخدم نفس السياق.

أمّا المترشحان زهير المغزاوي والعياشي الزمال فقد أصدرت حملتهما بيانا مشتركا أدانتا فيه ما اعتبرتاه إرباكا للعملية الانتخابية، وأهابتا “بأعضاء مجلس نواب الشعب النأي بمجلسهم الموقر عن الانخراط في هذا المسار المشبوه والانحياز إلى مصلحة تونس وشعبها وحماية السلم الأهلي من هذا المنزلق الخطير”.

وما يزال صوت المترشّح الثالث قيس سعيّد غائبا، في انتظار إصداعه بموقف يذكّر التونسيين بأستاذ القانون الدستوري الذي رفض أيّ تغيير لقواعد اللعبة من شأنه اغتيال الديمقراطية واغتيال الجمهورية.