ظهر في الآونة الأخيرة تيار يتحدث عن تاريخ “اليهود في الجزيرة العربية”، وضرورة فتح ملف وجودهم في المنطقة.
التوقيت لم يكن عفوياً ولا علاقة له بالتعددية الدينية، إذ يكشف الكاتب خالد الحروب في مقالة نشرت له بموقع ملتقى فلسطين، عن محاولات لإيجاد وخلق تاريخٍ مفتعلٍ لليهود بالجزيرة العربية، ضمن جهودٍ وصفها الكاتب “بالمستميتة” نحو إعادة تدوين تاريخ المنطقة، بحيث يتضمن مكونًا يهودياً، “يكون على ذات الأهمية التأسيسية للمكون العربي والإسلامي”.
قام المشرفون على هذه العملية المنظمة والممنهجة، والتي لا تبدو اعتباطيةً البتة أو محاولاتٍ فردية من بعض الهواة بحسب خالد الحروب، بكتابة مقالاتٍ مطولةٍ تتناول الوجود اليهودي بالإمارات والسعودية والبحرين وعمان، بموسوعة وكيبيديا باللغتين العربية والانجليزية، وذلك لإدراكهم لأهمية وانتشار هذا الموقع وحجم تأثيره، بقطع النظر عن مصداقية المعطيات والمعلومات المنشورة.
يؤكد توقيت نشر المقالات أسبوعًا بعد توقيع اتفاقيات التطبيع الإماراتي البحرين مع إسرائيل في سبتمبر الماضي، الشكوك المتعلقة بمحاولات تفصيل تاريخ يهودي مزعوم بالجزيرة العربية، ومساعي تضخيمه من مجموعات بشرية محدودة لا تتجاوز العشرات إلى تجمعات حضرية ومدنية كبرى يتجاوز تعدادها الآلاف، بما يخدم “أهداف الدعاية الثقافية والإستراتجية والدينية” لاتفاقيات التطبيع الإبراهيمية، بهدف “إبراز جامع مشترك بين شعوب المنطقة”، مع الكيان الصهيوني بحسب الكاتب.
وإزاء استحالة تزوير المراجع والمصنفات التاريخية الخاصة بتاريخ الجزيرة العربية، وتركيبتها السكانية والقبلية التي وضعها عشرات الباحثين من العرب والمستشرقين، لجأ القائمون على المخطط إلى الاستشهاد برحالة وكاتب يهودي مغمور من أصول أندلسية يدعى بنيامين التطلي، يزعم في كتابه المُعنْون “برحلات بنيامين”، زيارة للجزيرة العربية ضمن أسفاره التي قام بها بين أوروبا والشرق في الفترة ما بين 1165م و1173م.
يكشف الكاتب خالد الحروب من خلال مقارنةٍ بسيطةٍ ما بين مضمون المقالات المنشورة على وكيبيديا، ومتن كتاب الرحالة ببنيامين عملية التحريف والكذب والتدليس الخطيرة والمتعمدة، التي وظفها ناشر المقالات عبر اختلاق معلوماتٍ مضللةٍ ومحرفةٍ، تزعم وجود تجمعاتٍ يهوديةٍ كبيرةٍ في عدة مناطق بالسعودية وعمان والإمارات، ونسب ذكرها إلى الرحالة اليهودي.
ويقدم الحروب على سبيل المثال نموذجًا عن هذه الأكاذيب التي تروجها المقالات، بالإشارة إلى إحدى البلدات التي زارها ببنيامين خلال رحلته، والتي “تدعى بلدة كيس وتوجد بها أقلية يهودية، وتقع اليوم ضمن إمارة رأس الخيمة”، ويتكرر ذات الأمر في الصفحة الخاصة باليهود في عمان، زاعمةً بأن “بنجامين زار اليهود في بلدة اسمها مسقط”.
مزاعم ناشر المقال تتهاوى بمجرد البحث الذي أجراه الكاتب خالد الحروب، ليقف على أن الرحالة اليهودي لم يذكر ما يفيد زيارته أصلاً لكل من مسقط أو الإمارات، فيما يتعمد المحرر على صفحة وكيبيديا، إضافة هامشٍ تضليليٍ من “الأطلس الشارح للحضارة اليهودية”، للتغطية على معلوماته المفتعلة.
ملامح الدس والتزوير المفضوح للتاريخ بصفحات وكيبيديا، مثلت مدخلاً انتهى عبرها الكاتب إلى سلسلة الأكاذيب التي عممها الرحالة اليهودي بنيامين التطلي في كتابه، والذي لم يخل بدوره من سرد معطياتٍ تتنافى مع حقائق التاريخ والجغرافيا المعروفة، على غرار زعمه أن عدد اليهود في منطقة الجزيرة العربية خلال رحلته كان يقدر بحوالي 300 ألف نسمة، بينهم 100 ألف بمدينة تيماء لوحدها، فيما لا يقل عدد اليهود بمنطقة خيبر عن 50 ألف نسمة.
تؤكد الدراسات المعاصرة والبحوث التي أجراها عدد من والأكاديميين، بشأن القيمة الاعتبارية والتاريخية لمصنف الرحالة اليهودي، الخلاصة التي انتهى إليها خالد الحروب في مقاله، مشككًا في المعلومات التي ذكرها عن زياراته للجزيرة العربية والتي لا تخرج عن إطار المرويات.
ليس جديدًا اهتمام الدوائر الصهيونية باختلاق تاريخٍ يكرس وجودهم بالمنطقة، انطلاقًا من فلسطين وعبر شتى الحضارات التي تعاقبت على المنطقة، بما يثبت امتدادهم كمكوّن أصيل إلى جانب العنصر العربي والمسلم وباقي الفسيفساء الثقافية والبشرية بالمشرق العربي، ما يجعل مشروع تهويد تاريخ الجزيرة العربية جانبًا من مشروع تأسيسي لإعادة كتابة التاريخ اليهودي، والذي ما فتئ يبحث عن جذوره المزعومة، “لتحويل المختلق والمفبرك إلى تاريخ حقيقي تدرسه الأجيال اللاحقة”.