لم يعرف الطب العربي من بعد كبار أعلامه التي لمعت في القرون الأولى من عصر الحضارة العربية الإسلامية، نابغة تضاهي ابن الجزار القيرواني في عمق معرفته وغزير علمه ومقارباته التي كرّست للمرة الأولى ما يُعرف بطب التخصّص، كما أسهمت في وضع مفاهيم علاجية جديدة عُرفت لاحقا بالطب الشعبي والوقائي.

يصنّف الأكاديميون المتخصّصون وكُبريات جامعات الطب في العالم، ابن الجزار ضمن أبرز علماء الطب خلال العصر الوسيط الذي شهد نهضة إسلامية واسعة في مختلف المجالات العلمية، ومن ضمنها الطبابة والصيدلة وتركيب العقاقير والمداواة بالأعشاب.

ولا تقلّ إضافات أبي جعفر أحمد بن إبراهيم أبي خالد القيرواني المعروف بابن الجزار في هذا الحقل العلمي الدقيق، عمّا حقّقه الرازي وابن النفيس وابن سينا والزهراوي من اكتشافات، بل يذهب البعض إلى أنّ ابن الجزار تفوّق على تلك الأسماء، باعتباره أول من سنّ التخصّص الطبي ووضع قواعد ونظريات في طب الأطفال وكبار السن وطب المعدة والجهاز الهضمي، فضلا عن براعته التي جعلت صيته ذائعا في كامل أنحاء إفريقية وبلاد المغرب وحتى الأندلس.

طبيب بالفطرة

ينتسب أحمد ابن الجزار المولود سنة 898م إلى عائلة قيروانية توارثت مهنة الطب بين أفرادها، إذ كان والده وعمّه طبيبين حاذقين.

نشأ الصبي القيرواني نجيبا مجتهدا محبّا لدراسة العلوم، وتطلّع إلى دراسة الطب، فأخذ علومه عن إسحاق بن سليمان الإسرائيلي وإسحاق بن عمران وكلاهما طبيبان يهوديان ذاع صيتهما في بلاد تونس.

شهد ابن سليمان لتلميذه بالعبقرية وحسن الفهم، فبلغ من تميّزه في الطب وممارسته أنّه لم يقع في خطإ، ولم تُعرف له زلّة طوال سنوات عمره التي امتدّت نيفا وثمانين سنة.

على غرار سابقيه من علماء المشرق وبغداد، اهتم ابن الجزار بتراجم الأطباء اليونانيين وخصّص مساحة واسعة من نشاطه البحثي للاطّلاع على أبرز مراجعها وترجمتها، على غرار كتاب‏ “المقالات الخمس‏”‏ لديسقوريدس، “المقالات الستّ في الأدوية المفردة” ‏لجالينوس، كما ألمّ بمؤلفات العديد من علماء العرب في الصيدلة والكيمياء، ما ساعده على تطوير عدة نظريات وأبحاث.

أول أخصائي مسلم  

أبرز ما تميّز به ابن الجزار هي نظرياته التي وضعها في تخصّصات مختلفة، مؤسّسا بذلك لتفرّده العلمي، وكرّست شهرته طبيبا وعالما يقصده الطلبة والدارسون من مصر وبلاد المغرب والأندلس.

وتصنّف الموسوعات الطبية العالمية المعاصرة ابن الجزار أوّل طبيب متخصّص في التاريخ العربي والإسلامي، بفضل أبحاثه التي وضعها عن طب الأطفال والمسنّين، وجمعها في كتابي “سياسة الصبيان وتدبيرهم” و”طب المشايخ”، فضلا عن كتبه الأخرى وأشهرها “رسالة في الأدوية المركبة” و”العدة” و”زاد المسافر”، والتي ما تزال مرجعا أكاديميا يُدرس في الجامعات الطبية الغربية.

جمع ابن الجزار في “سياسة الصبيان” خلاصة معرفته المعمّقة وتجاربه في العناية بالأطفال، وما يتعرّضون له من علل في مختلف سنوات عمرهم، كما وصف هذه الأمراض وشرح طرق معالجتها.

نظريات الطب الشعبي والوقائي

لم تقتصر إنجازات أحمد ابن الجزار على المجالات التخصّصية والعلاجية، بل ساهم في تكريس مفاهيم جديدة للتوقّي من الأمراض والحفاظ على الصحة، شرح أبرزها في كتب “رسالة في التحذير من إخراج الدم من غير حاجة”، و”رسالة في الزكام وأسبابه وعلاجه”، وكذلك “رسالة في النوم واليقظة”.

عُرف عن الطبيب القيرواني تعفّفه واهتمامه بمعالجة الفقراء والمحتاجين، فكان يرفض أن يتلقّى أجرا من عمله، ودفعه السعي إلى توفير سبل العلاج والتطبّب لهذه الفئة من البسطاء والمساكين، نحو وضع قواعد للتداوي من مختلف الأسقام بأيسر السبل وأقل التكاليف في كتابه “طب الفقراء والمساكين”، فعُدَّ رائدا لمفهوم الطب الشعبي.

يُعتبر كتاب “زاد المسافر وقوت الحاضر” أحد نفائس ابن الجزار العلمية القيّمة ودرّة مؤلفاته، وضع فيه خلاصة علومه وبحوثه الطويلة وأفكاره الجريئة التي سرعان ما وصلت أصداؤها إلى أطباء أوروبا في مطلع القرن العاشر للميلاد، بعد أن نقل المؤرّخ قسطنطين الإفريقي هذا المؤلّف وترجمه.

وينقل بعض المؤرّخين أنّ الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت كان يحمل معه كتاب “زاد المسافر” خلال حملته العسكرية على مصر، ما يقيم الدليل على ما حواه من معارف طبية سابقة لعصرها.