تجد زعيمة حزب “التجمع الوطني” مارين لوبان نفسها أمام “رياح قضائية عاتية” عصفت بكل طموحاتها في خوض معركة الانتخابات الرئاسية عام 2027، في مشهد سياسي مزلزل قد يخلق فراغ في العائلة اليمينية بفرنسا وإرثها الطويل. محمد بشير ساسي لم يكن يوما يخلُد في فكر زعيمة حزب “التجمع الوطني” مارين لوبان ولا حتى الشخصيات المؤثّرة معها في الحزب اليميني المتطرف وقاعدته الشعبية بفرنسا، أن تتلقى أبرز الوجوه المثيرة للجدل في التاريخ الحديث داخل البلد الأوروبي وخارجه “صفعة قضائية” مؤلمة، قذفت بها خارج “مشهد اللعبة”، في حدث سياسي وصف بـ”الزلزال العنيف” على الساحة الفرنسية التي عاشت على وقع تجاذبات قوية خلال الانتخابات التشريعية التي جرت في الفترة الماضية داخل فرنسا والأخرى بين أروقة البرلمان الأوروبي. كلمة القضاء فبعد عقد من الزمن منذ أن فتح البرلمان الأوروبي تحقيقًا في ما عرف بقضية “الوظائف المزيفة” للـمساعدين الوهميين ما بين 2004 و2016 (الفترة التي شغلت فيها لوبان منصب نائبة في البرلمان الأوروبي)، وذلك بمبادرة من الاشتراكي الألماني مارتن شولتز، رئيس البرلمان الأوروبي بالاتفاق مع الاشتراكية الفرنسية كريستيان توبيرا وزيرة العدل الفرنسية (في ذلك الوقت)، قال القضاء الفرنسي كلمته لتنزلَ عقوبة محكمة باريس كـ”الـصاعقة” على لوبان بتهمة اختلاس الأموال العامة.. لم تصدّق اليمينية المتطرّفة أنها حوكمت بالسجن لمدة 4 سنوات منها سنتان مع وقف التنفيذ وسنتان تحت الإقامة الجبرية، ومنعها من الترشح لمدة 5 سنوات لأي منصب رسمي، إضافة إلى تغريمها بمبلغ قدره 100 ألف يورو . وشمل حكم الإدانة 8 نواب أوروبيين من حزب التجمع الوطني الذي تتزعمه لوبان، وقدّرت المحكمة الضرر الإجمالي بأكثر من 3 ملايين يورو، معتبرة أن المتهمين “حملوا البرلمان الأوروبي نفقات أشخاص كانوا في الواقع يعملون لمصلحة الحزب” اليميني. لم تتدّخر لوبن جهدا طيلة تسعة أسابيع ، على نفي الاتهامات الموجهة إليها، والقائلة بأنها كانت على رأس النظام الذي يهدف إلى نهب أموال البرلمان الأوروبي لصالح حزبها الذي قادته، في البرلمان الأوروبي، بين عامي 2011 و2021، كما سعت لثني المحكمة عن إصدار أحكام تمنعُها من المنافسة الانتخابية، معتبرة أن ذلك يساوي “موتها السياسي”، وقالت في إحدى مداخلاتها إن “هناك 11 مليون شخص صوّتوا للحركة التي تمثلها، لذا من المحتمل أن يرى الملايين والملايين من الفرنسيين أنفسهم محرومين من مرشحهم في الانتخابات غداً”. لكن المرأة التي عرفت بطباعها الحادة لدرجة أنّها طردت والدها المؤسس لحزب الجبهة الوطنية الراحل جان-ماري لوبان بسبب مواقفه الخلافية والجدلية في أوت 2015، تجد نفسها اليوم أمام “رياح قضائية عاتية” عصفت بكل طموحات وآمال شخصية هيمنت في فرنسا لأكثر من عقد من الزمان. إعدام الديمقراطية في الداخل الفرنسي التفّ الأنصار حول لوبان، واصفين الحكم بأنه اعتداء على المسار الديمقراطي. وكتب رفيقها في الترشح وخليفتها المحتمل، جوردان بارديلا، على منصة إكس: “ليست مارين لوبان وحدها من أُدينت ظلما، بل إن الديمقراطية الفرنسية هي من تُعدَم. فيما ندّد السياسي اليميني المتطرف إريك زيمور بالحكم، مشدداً أن لوبان لديها الحق الكامل بالترشح، وحتى أن بعض خصومها السياسيين، مثل وزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان والزعيم اليساري جان لوك ميلانشون، حذروا من فرض حظر، قائلين إنه يجب هزيمتها في صندوق الاقتراع بدلا من المحكمة. وفي نظر الشارع الفرنسي لم تصب المواقف الدولية في صالح لوبان بل ضدها، لأنّها جاءت من عتاة الشعبوية في العالم، ومن المعادين للحرية والديمقراطية. وقد كان لافتاً أنها لم تحصل على أي رد فعل متعاطف خارج هذه الدائرة العقائدية لليمين المتطرف، من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والسياسي الإيطالي ماتيو سالفيني والزعيم اليميني الشعبوي الهولندي خيرت فيلدرز والملياردير الأميركي إيلون ماسك والرئيس البرازيلي السابق جايي بولسونارو. فبالنسبة لهؤلاء يشكل إقصاء لوبان خسارة حليف أساسي داخل المؤسسات الأوروبية. ملفات حساسة وإن تشابهت الأسباب التي قادت لوبان إلى المحاكم في جميع المرات السابقة، وهي متعلقة بالطرق والأساليب الملتوية لتمويل حزبها، الذي بات رقماً صعباً في المعادلة السياسية،فهناك إجماع بين عديد المراقبين والمحللين على أن الحكم المزلزل هذه المرة أشعل أكثر من أي وقت مضى جدالا ونقاشات طويلة بشأن عدة مسائل في غاية الحساسية داخل فرنسا وخارجها، يمكن أن نطرحها كالآتي: – الإضرار بالإرث الثقيل الذي تركه جان ماري لوبان منافس الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك في انتخبات الرئاسة عام 2002، والشخصية التاريخية لليمين المتطرف الفرنسي ومؤسّس حزب التجمع الوطني عام 1972، قبل أن يتخلّى عن زعامته عام 2011 لابنته الصغرى مارين التي تولّت رئاسة الجبهة الوطنية في مؤتمرها الرابع عشر، ليصبح بعدها من يصفه نفسه دائما بـ”الأسطورة” الرئيس الفخري للحركة. – منذ تسلّمها المشعل من المؤسّس، عملت ماري على تغيير صورة الحزب عبر مسار تطبيع كانت إحدى محطاته تغيير الاسم، إذ حلّ التجمع الوطني بدلا من الجبهة الوطنية عام 2018، واكتسبت لوبان قوة جذب من خلال برنامجها القومي المناهض للهجرة، إذ باتت تحظى بنسبة تأييد تتراوح بين 34% و37% من الناخبين، ومع عدم أهلية الرئيس إيمانويل ماكرون للترشح لولاية ثالثة وكان ينظر إليها على أنها المرشح الأوفر حظا في المحطة الانتخابية الثالثة خلال مسيرتها السياسيّة بعد عامي 2017 و2022. لكن ما حدث مؤخّرا سيجعل انتخابات 2027 الرئاسية هي الأولى منذ ما يقرب من 40 عامًا التي لا يظهر فيها اسم لوبان على ورقة الاقتراع، وهذا ما يرسّخ الفكرة القائلة بأنه كلّما شعر اليمين المتطرّف في فرنسا بأنه يقترب أكثر من الحكـــم، أو يصل إلى مرحلة يدنو فيها من عمل “المنظومة السياسية”، يحصل ما يُبعده عنها سواء من المنظومة السياسية التي تلتف على نفسها في كلّ موسم انتخابات أو من القضاء. – قد يكون لقرار منع لوبن من الترشح تداعيات خطيرة على مستقبل حركتها اليمينية المتطرفة، وعلى الأخص إذا تجاهل الرئيس ماكرون الدعوات التي تطالبه بالتدخل وإلغاء الحظر، غير أن المرونة التي أبدتها لوبان وأتباعها في مواجهة انتكاسات أخرى، تجعل من المسارعة إلى كتابة نعيها السياسي الآن أمرا في غاية التهوّر. – فتح استبعاد لوبان من سباق انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2027 نقاشا حادا حول دور القضاء الفرنسي في السياسة، حيث جادل النقاد بأنّ مثل هذا الحكم يمكن أن يقوّض الثقة في المؤسسات الديمقراطية، كما أنه من غير المؤكد أن مضمون الحكم سيتغير، حينما تُعقد محكمة الاستئناف للنظر في القضية في صيف العام المقبل. وأمام هذا المشهد وجدت لوبان أن البديل هو تحريك الشارع من أجل الاستثمار سياسيّا في قرار إدانتها، وهي تظنّ أن ذلك قد يدفع الحكومة على حثّ القضاء للاستعجال بالمسألة. وبالتالي قد يعزّز هذا القرار وفق محللين يعزّز الشكوك حول تسييس العدالة، كما حصل في إيطاليا مع الإجراءات القانونية المتعلقة بسلفيو برلسكوني، أو في الولايات المتحدة مع الرئيس دونالد ترمب. – دخول القضاء الفرنسي على الخط للتصدي إلى محاولة مارين لوبان تحويل الحكم من قضائي إلى سياسي، مدافعا عن استقلاليته، وعدم خضوعه للتأثير السياسي، وضغط الشعبوية، والإعلام الموالي لليمين المتطرف، والممول من رجال أعمال يعملون على التحكم بالحياة السياسية. وقد أثبت من جديد وفق مراقبين استقلاليته وعدم خضوعه لتأثير الأشخاص ومواقعهم، أو التمييز بين طرف سياسي وآخر، حيث سبق له أن حكم ضد الرئيسين الأسبقين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء الأسبق فرانسوا فيون، وإلى الآن يعيش ساركوزي تحت المراقبة القضائية، بسبب تهمة تمويل حملته الرئاسية عام 2007 من طرف الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. – تلقي اليمن المتطرف في فرنسا وأوروبا طعنة مؤثرة باستعباد أكثر الشخصيات تأثيرا داخل العائلة اليمينية، التي شكلت جبهة قوية بصعودها في انتخابات البرلمان الأوروبي الصائفة 2024 على حساب الأحزاب اليسارية والليبرالية والخضراء، مستفيدة من عدة ملفات على غرار تأزم الأوضاع الاقتصادية والحرب الروسية على أوكرانيا وتنامي العداء للمهاجرين. عواقب خطيرة يظنّ كثيرون من خصوم لوبان السياسيين والأديولوجيين والأقليات والأجانب والمهاجرين في فرنسا، أن الحكم الصادر بحقها هز بشكل عنيف صورة سياسيّة عنيدة، تمزج بين القومية الثقافية والبراعة في الخطاب واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتنصّب نفسها بطلة مدافعةً عن حقوق مجتمع الميم، متجنبةً الاحتجاجات العامة ضد زواج المثليين، وتصوير نفسها كحامية للأقليات الجنسية من “الخطر الإسلامي”. وقد وصف المعارضين لسياستها هذه بأنها مجرد استثمار لمصالحها السياسية، كما حذّرت من “التهديدات الحضارية” ودعت إلى حظر الحجاب، ووعدت بأن تحتل العائلات الفرنسية المقام الأول عندها، وأن تكون مركز اهتمامها. ومما يعزّز المخاوف بين القياديين والمؤيدين والأنصار من عواقب سياسية خطيرة للغاية داخل حزب التجمّع وخارجه، هي الشخصية البديلة لخلافتها، خاصة أن سيناريو العائق القضائي لترشح الزعيمة لم يكن متوقعا باعتراف كبار المسؤولين في حزبها، وإن كانت ستحتفظ بولايتها ومسؤولياتها كنائبة عن منطقة با دو كاليه ورئيسة لأكبر كتلة بالجمعية الوطنية. فنقطة الضعف هنا هي أن حزبها هو حزب الشخص الواحد، منذ أن أسّسه والدها وحتى الآن، وفي حين أنها تمكنت من خلافة والدها على رأس الحزب، ليس هناك من يمكن أن يحل محلها، فلا بارديلا يستطيع أن يتولى قيادة الدفة، ولا ابنة شقيقتها ماريون ماريشال. تكمن مشكلة بارديلا الذي يترأس الحزب، في أنه دخل المعترك السياسي قبل أوان استعداده جيداً لذلك، فهو صغير السن، ولم يشغل وظيفة أو يتولى موقعاً رسميا حتى الآن، ولذلك من الصعب جدا أن يكون مرشحاً رئاسياً بديلاً، لأن الناخب الفرنسي لن يغامر بمنح صوته لشاب لم يخضع للتجربة من قبل، وكذلك الأمر لابنة شقيقة مارين لوبان التي عادت حديثاً إلى حزبها بعد أن التحقت بحزب خصمها إريك زيمور (حزب الاستعادة)، بعد خلافها مع خالتها في الصيف الماضي خلال الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وهي فتاة في مقتبل عمرها السياسي ولا تمتلك تجربة سياسية، تؤهلها لخوض انتخابات رئاسية. خسارة الحزب لمرشحته مارين لوبان ضربة كبيرة تبعده عن السباق الرئاسي وتحرم جمهوره مرشحاً مثالياً لليمين بكافة تشكيلاته، ولذلك تبدو قوى اليمين التقليدي من بين أكثر المستفيدين من إقصائها عن حلبة السباق، وباتت الفرصة متاحة أمامه ليعيد تشكيل صفوفه من دون سطوة لوبان، التي حصدت الشعبية في العقد الأخير بوصفها مرشحة اليمين صاحبة الحظ الأكبر بدخول قصر الإليزيه عام 2027. ومن بين المتأثرين بإقصاء لوبان زعيم حزب “فرنسا غير الخاضعة” جان لوك ميلانشون. وهو متأثر في اتجاهين، سلباً وإيجاباً. من ناحية سيفقد ميلانشون الخصم الذي بنى في مواجهته خطاباً متوتراً دوماً، شدّ من حوله عصب الشارع المعادي لليمين المتطرف، ومن ناحية أخرى سيجد الطريق أمامه ممهداً من دون خصم كان ينافسه بقوة، ويهدد فرصته في الوصول للرئاسة. وفي الحالتين، لن تصبح الطريق أمام ميلانشون أسهل على طريق الإليزيه، وسوف يجد أمامه نمطاً جديداً من تكتل اليمين، ربما أقل قدرة على الحشد من لوبان، لكنه يساويها في المقدرة على تحريك الرأي العام ضد اليسار المتطرف، وإثارة جماهير اليمين المتطرف على العناوين ذاتها التي بنت لوبان عليها رصيدها، وهي الهجرة والعداء للأجانب والأمن، وأهملت الحديث عن المشاكل الأساسية المتمثلة بارتفاع نسب البطالة وانخفاض القدرة الشرائية وتراجع مستوى الخدمات وخصوصاً الصحة، وتدهور التعليم، ويشاركها في ذلك اليمين الشعبوي في أوروبا والولايات المتحدة. من المؤكد أن قرار القضائي الصادر ضدّ لوبان سيعيد تشكيل المستقبل السياسي لفرنسا، إما بتعزيز صعود التجمع الوطني أو خلق فراغ في القيادة في الحركة اليمينية “المتطرفة، غير أن الثابت هو خوض الزعيمة اليمينية التي كرست معظم حياتها لبناء مسيرتها السياسية الخاصة لعائلة كانت تحيا على هامش السياسة الفرنسية التحدي حتى الرمق الأخير، كي يظل إرث “حزب الجبهة الوطنية” حيا في القلوب داخل فرنسا وخارجها وخوض معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة باقتدار وثقة لوضع قدم على الطرق المؤدي لقصر الإليزيه مهما كان اسم المرشح.
أضف تعليقا