ديانا محمود
على أصوات قرع الطبول والدمام ونقر الدف وعصي الخيزران، يقف “بابازار” بزيه العربي الأبيض وسط الجموع يردد أشعاراً خاصة ممزوجة بكلمات عربية وأخرى غريبة، يعيد الحضور خلفه بعض الكلمات، ترتفع سرعة قرع الطبول وتتسارع خلفها نقرات عصي الخيزران وأصوات الجموع، يسقط رجلٌ من بين الحاضرين يصرخ ويلتف حول نفسه. يقترب منه “بابازار” يغطيه بقطعة قماش بيضاء فيما يكمل الآخرون عزف موسيقاهم دون اهتمام بالغ بما يحدث ولا علامات تعجب. ينهض الرجل المغطى بالقماش الأبيض ويلوح برأسه ويهتز، يعلو الإيقاع أكثر وتسقط إمرأة شابة في الطرف الآخر من الغرفة. تسارع “مامازار” لتلقي عليها قطعة قماش أبيض، يقترب أحدهم ممن سقط وينثر عليهم ماء الورد ثم يعطيهم بيضة خام ليأكلوها فتتحسن حالتهم ويعودون إلى الغناء بعد ارتعاشة خاصة. هذه هي مراسم الزار جنوب إيران، مراسم غريبة بل قد تبدو مخيفة، لكنها بقايا من إرث إفريقي هاجر إلى سواحل الخليج العربي وأصبح جزءاً من موروث ثقافي لجزره.
الزار مادة دسمة للسياح
في جزيرة كيش السياحية، جنوب إيران تستضيف بعض المهرجانات فرقاً موسيقية محلية لتستعرض وجهاً مميزاً من ثقافة مدن الجنوب والبحر وهي “موسيقى الزار” التي اقترنت بالجن والخرافات لدى الكثيرين لكنها اليوم أصبحت جزءاً من هوية ثقافية يفخرُ بها السكان المحليون.
في جنوب إيران وعلى أطراف المياه الخليجية تبدو ملامح السكان مختلفة عن وسطها وشمالها، البشرة السمراء وتنوع اللهجات تكسر جبر الجغرافية، مزيج من العرق الفارسي والعربي والهندي والأفريقي اختلط ليعيد توزيع نفسه في هذه البقعة من الأرض بين جزر ومدن ساحلية، ابتسامات العابرين ترسم طيبة أبناء البحر ولهجاتهم سريعة الإيقاع ذات الأصوات المتحركة القصيرة، تجذبك لتصغي لها أكثر وتتعرف على أحد أشهر مكوناتها الثقافية وهي مراسم الزار.
الزار وأهل الهوى في الجنوب الإيراني
تجول فتاة معها عود من القصب على بيوت أهل الهوى في القرية تخبرهم بموعد المراسم، يتهيأ أهل الهوى بملابسهم النظيفة البيضاء لحضور مراسمهم الليلية لإخراج الجن أو كما يسمونها بالرياح من أجساد المرضى، نساء ورجال يتجمعون سويةً مع آلات موسيقية إيقاعية يطلق عليهم اسم “أهل الهوى” وهم أشخاص مرّوا بتجربة إخراج الرياح (أي الجن) من أجسادهم.
لأهل الهوى صفات خاصة عليهم التزام بها، لا يلامسون الميت إنساناً أو حيواناً، ملابسهم نظيفة دائماً ولا يقتربون من النجاسة وكذلك لا يسمح لأحد أن يدخن من نرجيلتهم دون إذنهم (أهل الهوى، ساعدي، ص 49).
لكل حلقة من حلقات أهل الهوى كبار يديرونها يعرفون باسم “بابا زار” و “ماما زار” وهم عادةً يتوارثون هذه الصفة عن آبائهم يحوزون على احترام الآخرين كما لو كانوا أطباء بالفعل، يقول عیسى كهيدري أحد المعروفين ممن وصلوا إلى مرتبة بابا زار: “عندما يأتينا مريض ما نسأله إذا ذهب إلى الطبيب أولاً، إذا كان قد ذهب وحصل على العلاج المناسب نطلب منه أن يتابع علاجه فقط ولكن في حال عجز الأطباء عن علاجه نرحب به ونقيم له مراسم الزار”.
يعتقد أهل الهوى في إيران أن الرياح تختلف عن الجن ولها عدة أنواع منها عمياء وأخرى مبصرة، أشهرها رياح الزار وهي من الرياح الكافرة، ومنها رياح المشايخ وهي مسلمة، ومنها رياح الجن ومنها رياح نوبات تعيق حركة المريض وتلحق به الكآبة، وأخرى تسمى رياح ديب وهي أشبه في وصفها بما يعرف بالعفريت في التراث العربي، لكن حسب من يعتقد بهذه الرياح فإن أخطرها هي رياح الزار.
توضح الباحثة الإيرانية سودابه فضائلي في كتابها “ثقافة العجائب” أن الزار كان إلهاً في السماء لدى بعض الشعوب الأفريقية لكنه خسر مكانته بعد انتشار المسيحية والإسلام فهبط من السماء إلى الأنهار والمستنقعات، لكنه في موروث الجنوب الإيراني وبعض الشعوب العربية يتشكل من الرياح.
طقوس ومراسم تحت قرع الطبول
عندما يوافق بابازار على معالجة المريض يطلب منه اعتزال الناس وعدم الاختلاط بهم ضمن شروط خاصة كأن لا يرى المريض أحداً من الجنس الآخر أو كلباً أو دجاجة، ويدهن جسده بمادة عشبية تصنعها مامازار من الزعفران والريحان والهيل والجوز ومواد عطرية أخرى.
بعد أسبوع يحاور بابازار الرياح داخل جسم المريض المغطى بقماش أبيض ويسألها عما يريد ويمكن أن يتضمن الحوار ضرباً بالخيزران على جسد المريض، لكن في نهاية الأمر توضح الرياح ماذا تريد وغالباً ما تريد أشياء مادية كالذهب والأقمشة وغيرهما، تقدم هنا الذبائح مع ترديد اناشيد خاصة غالباً ما تكون باللغة العربية.
بعد خروج الرياح (الجن) يتحضر أهل الهوى لإقامة حلقة موسيقية تعتمد على قرع الطبول والدفوف فيما ينقر بقية الحضور عصياً صغيرة بعضها البعض بالتناغم مع شدة القرع على الطبول، تضع سيدة من الحضور وسط الجموع سفرة صغيرة وضع فيها بخور ونباتات عطرية وماء ورد وبيض، يجلس الجميع في انتظار بابازار أو مامازار ليقود الحلقة.
محليون يصفون الزار بالأوهام
يتجنب الجنوبيون في بندر عباس وجزيرة قشم الغرباء عند سؤالهم عن مراسم الزار، فبعض السكان لا سيما هؤلاء الشبان يصرون على استبعاد هذه المراسم من موروثهم الثقافي ويرون أن أصل المراسم هو استغلال البعض بساطةَ عامة الناس وما يحدث في هذه المراسم لا يتعدى السرقة والخداع، وكل ما يثار عن صحة علاجهم للأمراض المستعصية ليس سوى وهماً يدفع بالفقراء للنجاة من مصير لن يتغير أبداً.
يقول محمد (28 عاماً – بندر عباس) لبوابة تونس: بعض الحاضرين في مراسم الزار ممن يؤكدون صحتها هم من مجموعة المخادعين الذين يقبضون أموالاً مقابل الترويج لها.
مراسم محلية لا قيود لطهران عليها
لا تتدخل الشرطة المحلية في إيران لمنع إقامة هذه المراسم، ولا تتصدى للمروجين لها، لأنها بطبيعة الحال محصورة جداً بعدد من سكان الجزر التابعة لمحافظة هرمزكان جنوب البلاد، فيما تنتشر هذه المراسم أيضاً بشكل جزئي في جنوبها الشرقي في سيستان وبلوشستان، و طالما لم تسجل هذه المراسم حوادث مؤذية فالحكومة الإيرانية لن تدخل بها ولا سيما مع انتشارها داخل أوساط أتباع المذهب السني، لكن مشاركة فرق محلية لاستعراضات مراسم الزار يعكس رغبة السكان المحليين بنقلها من مراسم تشوبها الخرافات إلى تراث ثقافي يحمل في طياته هوية مدن الساحل الممزوجة بالمهاجرين وثقافتهم.