رياضة

أغنيات “الإلتراس” في تونس … من التغني بالانتصارات إلى التعبيرات السياسية والاجتماعية


“تونيزي يا تينيزي معاك ربي والنبي”، الأهزوجة الأشهر التي يرددها مشجعو المنتخب التونسي في المدرجات إشادة بفنيات اللاعبين ومهاراتهم وأهدافهم التي صنعت انتصارات حاسمة في مسيرة نسور قرطاج.

هذه الأغنية وغيرها التي يرددها الجمهور التونسي في مواكبتهم لمقابلات منتخبهم على غرار “مربوحة إن شاء الله” و”يا ربي يا عالي أنصر تينيزي”، أي تونس بالفرنسية، تؤرخ لجانب من مسار تطور أغنيات “الإلتراس” في تونس وثقافة مجموعات المشجعين الذين تحولت أغانيهم وشعاراتهم إلى هوية رياضية وجماعية مميزة وظاهرة تضفي رونقا على حضورهم في الملاعب، وتعكس مشهدا تنافسيا بين المدرجات المكان الذي  تتبادل فيه جماهير الفريقين الأغاني والشعارات بالتوازي مع تنافس اللاعبين على المستطيل الأخضر.

من خلايا الأحباء إلى الإلتراس

ليس من باب المبالغة القول إن تطور حركة “الإلتراس” وثقافتها في تونس تعتبر من بين الأوائل على صعيد العالم العربي وكذلك شمال إفريقيا، وذلك لاعتبارات تتصل بعلاقتها الوطيدة جغرافيا وثقافيا وسلوكيا بالقارة الأوروبية التي عرفت ملاعبها انتشار ثقافة مجموعات المشجعين وأغانيهم منذ أواسط التسعينات.

مع بداية الألفية الثانية بدأت الملاعب التونسية تشهد ملامح تقاليد جديدة ترتبط بما تطلق عليه الجماهير تسمية “الفيراج”، وهي المدرجات الواقعة خلف منطقة المرمى من جهتي الملعب والتي مثلت نواة حركة “الإلتراس” وتعدد مجموعاتها ما ساهم في ازدهار الأغنيات وتنوع مضامينها.

منذ أواخر سبعينات القرن الماضي ومع تشكل ظاهرة خلايا الأحباء في الساحة الرياضية في تونس بهدف تأطير جماهير الفرق ومشجعيها الأوفياء الذين يواكبون مباريات فريقهم، خاصة منهم جماهير الفرق 

الأربعة الكبرى في الدوري التونسي وهي الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي والنجم الساحلي والنادي الصفاقسي، بدأ الأحباء في ترديد أغنيات ومقاطع ملحنة خلال المباريات تتغنى بتاريخ فرقهم العريق وفنيات بعض النجوم كما تسخر من هزائم منافسيها.

وهكذا اشتهرت عدة أغنيات منذ أواخر الثمانيات وبدايات التسعينات وتحولت إلى أيقونات تاريخية،على غرار “الترجي وبس أحمر وأصفر هو وبس” و”الإفريقي فن وخبرة وتكتيك”، إلى جانب تغني جماهير النادي الصفاقسي بنجمهم المحبوب في التسعينات صانع الألعاب إسكندر السويح “السويح يجبد ويطيح”.

كان تطور الشعارات والأغنيات تعبيرا عن مسار حركة الزمن والتغيرات المتسارعة في المدرجات، وصارت الجماهير تنظم تجمعات عفوية في المدرجات الجانبية و”الفيراج”، إلى جانب تنظيم مجموعات تستلهم الكلمات والألحان من مجموعات المشجعين في الأرجنتين التي تحولت إلى ظاهرة استثنائية عالمية.  

فمع سنوات الألفين عرفت المدرجات التونسية أهازيج متطورة ومختلفة وسريعة تتداولها الجماهير إلى جانب حضور الطبول التي أضفت أجواء إيقاعية في ترديدها على غرار “aller forza tarajji”، و”الإفريقي نبغيها من صغري”، و”الأيتوال يا عمري” اللي عرف بها جماهير النجم الساحلي، ويا ربي يا عالي أنصرها تيفوزي” التي اشتهرت بها مجموعة “الفايترز” من جمهور النادي الصفاقسي.

البعد السياسي والاجتماعي

تناولت دراسات اجتماعية الدور السياسي الذي لعبته مجموعات الجماهير منذ منتصف العشرية الأولى للقرن الحالي في تونس، من خلال تبني القضايا السياسية والهموم المرتبطة بالأوضاع الاجتماعية الحارقة للشباب وواقعهم المعيشي، ما جعل المدرجات بمثابة متنفس للتعبير السياسي في ظل الكبت وتكميم الحريات في المنابر الأخرى.

لم تكن مجموعات الجماهير حكرا على أبناء الأحياء الشعبية وسكان أحزمة الفقر  بحسب الصورة النمطية المتداولة في السنوات الأولى عن الظاهرة، إذ تنوعت مكوناتها و جذبت أعدادا كبيرة من الشباب المثقف وخريجي الجامعات الذين ساهموا في تطوير مستوى الأغنيات والأهازيج، لتعكس معاني ومفاهيم أوسع من كرة القدم وتتحول إلى إسقاطات رمزية ذات بعد سياسي.

وهكذا تحولت بطولات الأندية والجماهير إلى تمثل مجازي لصمود غزة أمام العدوان الصهيوني وانتصارات المقاومة في حرب تموز ونضالات “شي غيفارا”، إلى جانب قضية فلسطين التي أصبحت أكثر حضورا بأغنيات وشعارات مناهضة للاحتلال، فظهرت في تلك المرحلة أغنية “يا فلسطين” التي تغنى بها “إلتراس” الترجي و”شي غيفارا” التي ابتدعتها جماهير الإفريقي.

أنتجت مرحلة ما بعد الثورة والربيع العربي واقعا جديدا شهد عديد الأزمات والحوادث السياسية والاجتماعية التي كان لها عميق الأثر في الشارع التونسي، وكان من الطبيعي أن تترجمها جماهير الأندية التي عملت على ابتكار أغنيات تلامس الواقع وتحاكيه وهو ما تجسد في أغنيات على غرار “إحنا اللي حكمنا وقاومنا اللي ظلمنا”، و”يا حياتنا و”كورتاج الموت” أي قافلة الموت، في اشارة إلى تواتر ظاهرة هجرة الشباب غير النظامية نحو السواحل الأوروبية نتيجة تدهور الوضع المعيشي وتفشي الفقر والبطالة.

عرفت هذا الأغنيات المحملة بالغضب الشعبي وهموم الشباب انتشارا واسعا خارج نطاق الملاعب ونالت أصداء كبيرة لدى الشارع المحلي حتى بين الفئات غير المولعة بكرة القدم، ما يؤكد تحول أغنيات الإلتراس من مجرد أناشيد احتفالية مرتبطة بالإطار المكاني والزماني للملعب إلى ترجمة للواقع المعيشي وظاهرة حمالة لمعاني ورموز سياسية تختلف مساراتها ومناهجها.