سياسيّون وخبراء يطالبون الأحزاب بفسح المجال للشباب ومنحهم المسؤوليّة لإحياء السياسة في البلاد
لطالما كان الشباب التونسي فاعلا أساسيّا في المنعرجات السياسيّة الكبرى للبلاد، فقد تصدّر الأحداث في انتفاضة الخبز 1984 وكان في طليعة انتفاضة الحوض المنجمي وأحداث الثورة، وما تلاها من التغييرات الكبرى التي جعلت تونس تعيش الديمقراطيّة واقعا بعدما كانت تتمنّها حلما.
غير أن التقلّبات التي عاشتها تونس منذ الثورة إلى الآن دفعت الشباب إلى الابتعاد عن المشهد في ظل صراعات حزبيّة ومن ثمّة ما يعتبره السياسيّون والمحلّلون “موت السياسة” بعد إعلان قيس سعيّد عن إجراءاته الاستثنائيّة في 25 جويلية 2021.
ويرى البعض أن ظاهرة عزوف الشباب التونسي عن المشاركة في الحياة السياسية ليست وليدة الساعة، بل تتجذّر في حقبة تعود إلى ما قبل ثورة جانفي 2011.
وبالرغم من أن الشباب التونسي قد لعب دورا رئيسيا محركا لقاطرة الثورة التي كان شعارها الأساسي “الحرية والكرامة والشغل”، إلا أنه ونتيجة عوامل عدّة، فإنه عاد إلى مربع الاستنكاف السياسي والعزوف عن المشاركة في الشأن العام.
وكان للصراعات الحزبية وتدهور المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية دور سلبي في مزيد توسيع الفجوة بين الشباب التونسي وتطلّعاته المستقبلية والتوجّهات والخيارات التي اعتمدها السياسيون طيلة العشرية الأولى لمرحلة الانتقال الديمقراطي.
وقد شكّلت الاستحقاقات الانتخابيّة الماضية مثالا واضحا تجلّى من خلالها عدم مشاركة الشباب، وقد عكست النسب المتدنيّة لمشاركتهم هذه الظاهرة.
موت السياسة وسبل إحيائها
يقول الناشط السياسي وأحد المترشّحين للانتخابات الرئاسيّة الماضية عماد الدايمي: “لا يلوح أي أفق للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وأزمة الحكم في تونس، في الأمد المنظور”.
مضيفا: “وتبدو الوضعية في حالة انسداد تام؛ بسبب تعنّت الرئيس واستفراده بالقرار، وتمسّك محيطه المتنفّع باحتكار السلطة والاستفادة منها، وضعف المعارضة الشديد، وعدم قدرتها على المبادرة والتحشيد بعد سجن أغلب قياداتها، وسلبية الإدارة والأجهزة الصلبة التي تُطبّق التعليمات دون قناعة، وتتمدّد في الفراغات لنيل نفوذ إضافي دون رؤية، وانكفاء الكفاءات وناشطي المجتمع المدني، وعزوف عموم الناس عن الشأن العام وانكبابهم على أوضاعهم المعيشية المتدهورة، وعدم اكتراث الشركاء الاقتصاديين الأجانب، واكتفاء أغلبهم بالتعبير عن المخاوف من انهيار الدولة.
وتابع: “في ظلّ هذا الوضع، قامَ النظام الحاكم بمشاركة من أجهزة الدولة باغتيال السياسة عمدًا. حيث انتهت تقريبًا كل مظاهرها من عمل حزبي، وأنشطة جماهيريّة، وحوارات مجتمعية، وتحالفات ظرفيّة، وتكتّلات مبدئية، وصراع برامج، وتنافس في المواقف وأخذ وردّ، وهجوم ودفاع وخلافات تحت قبة البرلمان، وسجالات في أستوديوهات الإذاعات والمحطات التلفزية”
واعتبر أن سهولة “اغتيال” السياسة في البلاد، واختفاءها في وقت قياسي كأن لم تكن، يبيّن بالكاشف هشاشتها البنيوية وضعفها الهيكلي، وفشل مختلف فاعليها.
وبيّن أن ذلك يطرح على المجموعة الوطنية واجب العمل على إعادة بناء السياسة في البلاد على أسس صلبة، وبفاعلين جدد أو قدامى قاموا بمراجعات عميقة، وإعادة تصويب للبوصلة، وبمنهج قائم على المبادرة والابتكار والحوار.
هنا تظهر الحاجة إلى الشباب محرّكا رئيسيا، في تحريك المشهد السياسي أو “إنعاش” السياسة “المحتضرة في تونس، استندا إلى الأدوار التي لعبها في كثير من المحطات التاريخيّة.
السياسة والأزمة “الجيليّة”
في هذا السياق اعتبر المحلّل السياسي محمد صالح العبيدي أن الشباب ليس فقط رهانا نظريا وإنما هو رهان فعلي لتجديد الحياة السياسية في تونس.
وأشار في تصريح لبوّابة تونس إلى أن المسألة السياسية في تونس تشهد ما يعرف بالأزمة الجيلية، مبيّنا أن الحياة السياسيّة في تونس تعيش تقريبا نهاية جيل سياسي كامل أثث المشهد منذ الثمانينات والسبعينات والتسعينات، وأن هذا الجيل انتهى فعليّا بعد ممارسته السلطة مدّة 12 سنة.
وبيّن العبيدي أن جيل الشباب في الشريحة العمرية بين 18 و40 سنة أمامه اليوم فرصة كبيرة ليأخذ المشعل خاصة لدى المدارس السياسية الكلاسيكيّة المبنية على الإسلام السياسي واليسار و”الدساترة” والقوميّين.
واعتبر العبيدي أن مسألة إعادة إنتاج مشهد سياسي محسومة، مشدّدا على أن التونسيّين إن كانوا يتطلّعون إلى مشهد سياسيّ جديد على الطريقة التفاعلية والحيّة، فلا بدّ القيام بنوع من التجديد الجيلي يتصدّره الشباب بهواجسه وبمفرداته الجديدة وبمفاهيمه.
ولفت المحلّل السياسي إلى أن جيل الشباب يتمتّع بميزة مهمة وهي تجاوز الصراعات القديمة، موضّحا أن مشاكل الجيل القديم تتلخّص في تأبيده لصراعاته الإيديولوجيّة إلى درجة أنه أفشل المشروع الديمقراطي، وفق تقديره.
وحمّل العبيدي الشباب مسؤوليّة إنتاج معنى السياسة، وبيّن أن هذه الشريحة العمرية معنيّة بإعادة إنتاج معنى للسياسة في البلاد وإعادة خلق فضاءات جديدة “وأكثر من ذلك هو مطالب بإعادة إنتاج أدوات القرب أي سياسة القرب من المواطنين بلغة جديدة بمفاهيم جديدة وبتطلعات أخرى جديدة“.
وحول أشكال مبادرة الشباب في إنعاش الحياة السياسيّة في تونس أكّد أن العبيدي أن ذلك لا يكون إلا من بوّابة الأحزاب السياسيّة.
وقال في تصريحه لبوّابة تونس: “أنا أرى أن الأحزاب السياسيّة الكلاسيكيّة بقيت تقريبا مجرّد وعاء نظري وعلى الشباب أن يأخذوا المشعل ويتصدّروا لصنع القرار داخلها عبر تغيير التسميات أو تغيير المقرّات على سبيل الذكر.
وشدّد على أن في تونس أربع مدارس سياسيّة كلاسيكية تقليدية قديمة ولا يمكن خلق شيء جديد، ولا يمكن إنتاج سياسة خارج أطر الأحزاب.
وختم بتأكيد ضرورة عمل الشباب على إعادة إحياء هذه الأحزاب حتى تستعيد البلاد “عافيتها الديمقراطية”.
الشباب.. طفرة لا بدّ من استثمارها
من جهته أشار الناطق باسم الحزب الجمهوري وسام الصغيّر إلى أن المجتمع التونسي من أكثر المجتمعات العربية الفتيّة إذ أن 57% من المجتمع التونسي أعمارهم أقل من 35 عاما.
واعتبر، في تصريح لبوّابة تونس، أن الشباب إمّا أن يكون فرصة أو أن يصبح أزمة. فإذا توفّرت له الآليات اللازمة تخلق منه فرصة للإنتاج والمشاركة والإبداع والتجديد. أو أنه يتحوّل إلى عبء على الدولة.
ولفت الصغيّر إلى أن المؤشرات الاقتصادية وبنسب البطالة وارتفاع الجريمة وبانتشار السلوكيّات المحفوفة بالمخاطر وبانتشار نسب استهلاك المخدّرات فإنه لا وجود لآليات إدماج.
وبيّن أن الشباب يمكن أن يتحوّل إلى فرصة للدولة لأنه يعيش طفرة وهذه هي الطفرة تتجه إلى خفوت بما أن المجتمع التونسي يتّجه إلى التهرّم بعد 2030.
وأشار الصغير إلى الفرق بين نسب مشاركة الشباب في الانتخابات الرئاسيّة في 2019 و2024، ولاحظ التراجع من مشاركة حوالي 47٪ من الشباب في 2019 إلى 6٪ 2024.
وذكّر بأنه سبق أن حذّر من هذا التراجع وبيّن أنه يمثّل تراجعا لمنسوب الثقة في الانتخابات من جيل الشباب وهذا تهديد للدولة وللسلم الأهلية باعتبار أن قرارات صنع القرار ليست نابعة من الأطراف التي تمثل جيل المرحلة القادمة.
وذكّر الصغيّر بالمحطّات التاريخيّة التي طبعت مساهمة الشباب في رسم ملامح البلاد الحاليّة.
وبيّن الناطق باسم الحزب الجمهوري أن تراجع دور الشباب في المجتمع يعود إلى عدة عوامل، منها تأثير التكنولوجيا والثقافة الاستهلاكية التي أفرزت جيلاً يركز على الترفيه والاستهلاك.
وأضاف أن هذا الشباب يعاني من نقص في الفرص للمشاركة الفعالة، حيث يتهم كبار السياسة وشيوخها بإقصائهم عن اتخاذ القرارات.
وأوضح أن الشباب يعتبر هذا الخطاب وسيلة لتغطية عدم الاهتمام الفعلي والافتقار إلى تحمل المسؤولية.
وأوضح الصغيّر أن كل هذا يتطلّب تغييرا جذريّا يتمثل في تشجيع الأنظمة والسياسات الرسمية على دعم مسؤولية الشباب، بدلاً من تخويفهم أو تهميش آرائهم. فليس من مصلحة الدولة التضييق على الشباب عبر مراسيم على غرار المرسوم عدد 54 أو التهديد بالسجن.
وشدّد على أن المنظومة التعليمية والثقافية تلعب أيضا دوراً أساسياً في تعزيز شعور الانتماء لدى الشباب، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 64% من الشباب يفتقرون إلى الثقة في مؤسسات الدولة، مما يؤثر سلباً في العلاقة بينهم وبين الأنظمة الرسمية ويزيد في حالة الشك وعدم الالتزام لديهم.
وذكر أن المسح الوطني للشباب في 2018 يوضّح أن أكثر من 60% من الشباب يرون أن عدم حصولهم على وظائف يعود إلى نقص العلاقات والوساطات بدلاً من الكفاءة ويعتبر أنّ العلاقات والمصالح والوسطات هي الوسيلة الأنجع للإدماج والإشراك وللإيجاد فرصة عمل.
واعتبر أن تغييرا هيكليا في المنظومة الثقافية والتربوية والرسمية في علاقة بتعاملها مع الشباب أصبح ضروريّا.
وبيّن أن الشباب يتحمل جزءاً من المسؤولية بسبب اعتمادهم على عقلية الضحيّة، مما يؤدي إلى صراعات بين الأجيال وأزمات سياسية.
وطالب الشباب بأن يقطع مع عقلية المفعول به التي هي نتاج سياسات امتدّت لأجيال، وأنها لن تؤدّي إلّا إلى صراع الأجيال وصراع الأجيال لا يولّد إلا الفراغ والأزمات السياسية.
ودعا الصغيّر الأوعية السياسيّة الموجودة إلى منح الشباب الفرصة ليبادر وليشارك في صنع القرار وتحمّل المسؤوليّة خطوة أولى لعودته إلى الواجهة.
كما بيّن الحاجة الملحّة إلى خطاب اتصالي رسمي وخطاب إعلامي يقطع مع الترويج إما عن قصد أو عن غير قصد لسرديّة إقصاد الشباب من ساحة الفعل.
وشدّد الناطق باسم الحزب الجمهوري على أهميّة دور الأحزاب والنظم الحزبية والنقابيّة والحقوقية في إتاحة الفرصة وتأمين المرور الجيلي.
وقال: “نحن اليوم في مرحلة ما بين جيلين مرحلة حساسة يلزم يكون فيها وعي عميق بضرورة المرور الجيلي لدفع هذا الجيل الشبابي إلى تحمل المسؤولية، وشهدنا أنه في كل مرّة تمنح المبادرة للشباب ينجح في تحمل مسؤولية ويكون في طليعة المبادرات ويقوم بأشياء فيها إبداع وتجديد وخلق”.