ثقافة

أسماء لمعت وأخرى خفت بريقها في دراما رمضان تونس 2022

صابر بن عامر

كعادة كل موسم رمضاني تونسي تلمع أسماء ويخفت بريق أخرى، وهي سُنّة التنافس على المشهد الدرامي اليتيم في البلد، أما الظاهرة الأهم في العام الحالي فأساسها ذاك التفاوت العجيب في الأداء بين فنانين مُخضرمين، تراوح حضورهم بين الإيجابي والسلبي وآخرين شباب أثبتوا علوّ مواهبهم، رغم قصر تجربتهم التمثيلية.

وهنا كان الامتياز جليا في المسلسل الدرامي “الفوندو 2” للمخرجة سوسن الجمني الذي عرضته قناة “الحوار التونسي” الخاصة، لكن هذا الامتياز اقترن بأسماء جزائرية في الغالب وأخرى تونسية بشكل أقل.

فالثلاثي الذي أتحفتنا به الجمني هذا العام كان مُبهرا  من حيث الوسامة للذكرين عزيز بوكروني في دور “عاشور” المهرّب، وابنه عيسى الذي جسّد دوره بسحر يوسف سحيري، وجمالا ودلالا للأنثى أمال قادر في دور سمر زوجة بطل العمل يحيى (نضال السعدي).

ثالوث بات حديث الشارع التونسي والجزائري على السواء بما اجتمع لديهم من كاريزما وقوة أداء. وهو ما يُحسب لمخرجة العمل التي أتقنت في اختيار الرجل/ المرأة المُناسب (ة) في الدور المُناسب.

كاستينغ موفّق

الكاستينغ الجيّد الذي اعتمدته مؤلفة العمل ومخرجته الجمني، أفرز منذ العام الماضي وجوها جديدة تبشّر بمواهب تمثيلية واعدة لعلّ أبرزها الشاب نسيم بورقيبة (20 عاما) الذي جسّد ابن “جوزيف” (مروان نوردو)، وهذا الأخير، أي نوردو، مثّل مع بورقيبة أهم اكتشافات العمل منذ الموسم المنقضي، فكلاهما لم يسبق لهما التمثيل قبلا، لكن أداءهما في “الفوندو” أتى منسجما مع طبيعة الدورين وتناقضاتهما بين حب أبويّ أخرق لابن عاق ومتمرّد لكنه مُحبّ لوالده الذي يرى فيه قدوته وملاذه رغم سلوكه غير السويّ.

فمثّلا ثنائيا شدّ انتباه المُشاهد بعفوية أدائهما وسلاسة تعبيراتهما بالوجه قبل الحديث، وهو أمر يُحسب مرّة أخرى للجمني التي أثبتت للسنة الثانية على التوالي،  قدرات استثنائية في تغيير جلد أبطالها من حالة تمثيلية إلى أخرى.

وهي التي تمكّنت من تغيير الأداء التمثيلي لياسين بن قمرة الذي بقي ولمدة خمسة مواسم متتالية سجين دور “بدر” في “أولاد مفيدة” بصوته الأجشّ وحركاته الشوارعيّة، فأتى صوته رصينا وحركاته هادئة دون مبالغات مُتّسقة مع ما يقتضيه المشهد من هزل وجد، فيضحك بقياس وينفعل بإحساس دون زيادة أو نقصان.

والأمر ذاته انسحب على النجم كمال التواتي الذي جسّد في العمل دور الصائغ “الماروكي” بأداء هادئ يُخفي أكثر ممّا يظهر، ليقطع نهائيا مع صورته الكوميدية النمطية التي عرفه بها الجمهور لعشريتين عبر سلسلات: “اضحك للدنيا” و”عند عزيز” و”لوتيل” و”شوفلي حل” و”دار الوزير” وغيرها، وإن تغيّرت الشخصيات فالأداء واحد، وخاصة على مستوى الصوت الذي لم يتبدّل في كل ما تقدّم، إلاّ لماما.

ورغم حضوره الشرفي في المسلسل تمكّن الفنان محمد علي بن جمعة، من تقديم أداء متميّز عكس قدرته التمثيلية على تجسيد الأدوار السيكولوجية المعقدّة، والتي ذكّرت عشاق المسرح، ولو قليلا، بدوره المرجعي “نون” في مسرحية “جنون” للفاضل الجعايبي، وهو دليل آخر يؤكّد أن في الدراما “لا يوجد دور صغير ودور كبير، بل هناك ممثل صغير وممثل كبير”.

ومحمد علي أو “دالي” الذي كشفت الحلقة الأخيرة من “الفوندو 2” أنه القاتل الفعليّ للفتاة مريم أصل الحكاية اللغز التي ذهب ضحيّتها يحيى ومن ثمة صديقه سليم (ياسين بن قمرة) المقتول أيضا من درة أخت يحيى (أميرة شبلي)، قدّم على القناة ذاتها “الحوار التونسي” في مسلسل “براءة” واحدا من أقوى أدواره التمثيلية عبر شخصية الزوج الخائن والمتحرّش بجارته المُصابة بالذُهان، مُثبتا مرّة أخرى أنه بات الشرير الأول للدراما التونسية في السنتين الأخيرتين، فهو الأستاذ المتحرّش بتلميذته مريم في “الفوندو” وقاتلها أيضا، وهو الجار المغتصب لصديقة زوجته في “براءة”.

شخصيتان جمعتا من الشر أقصاه ومن الخبث أفظعه ومن الدناءة مُنتهاها، الأمر الذي جعله مكروه الجماهير، عوض معشوقهم، وهي مُجازفة لا يُقدم عليها سوى ممثل مُغامر وواثق من أدواته التمثيلية اسمه محمد علي بن جمعة.

وغير بعيد عن مسلسل “براءة” لمخرجه سامي الفهري أبهر الطفل محمد عزيز الزوبلي جمهور الشاشة الصغيرة بأدائه السلس والمُتقن في الفرح والألم، في الشرود والحضور، في الانتصار والانكسار، وهو صاحب الخمس سنوات فقط، ليكون مُفاجأة الموسم دون منازع، وذلك بعيدا عن التقييمات الحقوقية، لطفل سُلبت منه براءته في دور مركّب وقاس لا يتحمّله أعتى المُمثّلين المُكرّسين؟

وبالتوازي مع هذا الحضور القويّ لعزيز، أبهرت الفنانة ريم الرياحي جمهورها الذي تعوّد عليها في أدوار الفتاة الجميلة المُكافحة والحالمة كما ظهرت قديما في مسلسل “غالية” أو سيّدة الأعمال “المافيوزية” التي تُتاجر بالأعضاء البشرية كما بدت في مسلسل “ناعورة الهواء”، وقبلهما بنحو ثلاثة عقود في دور الفنانة الشاملة والمُتكاملة في “فوازير” رؤوف كوكة، لتأتينا هذا العام في براءة بدور مركّب أعلى من حضورها التمثيلي، من خلال شخصية زهرة، المرأة المُستضعفة والمُستكينة لأهواء زوجها وناس (فتحي الهداوي) في الظاهر، المتمرّدة والمُتغطرسة والمُتحكّمة في زمام أمرها وكلّ من حولها في الباطن، بدهاء وخُيلاء أتقنته ريم حتى التعاطف معها أو الاشمئزاز منها.

أما في “حرقة” للأسعد الوسلاتي في موسمه الثاني والذي بثته قناة “الوطنية 1” (عمومية)، فقد واصلت الفنانة الشابة ياسمين بوعبيد تألقها في تجسيد دور “وعد”، الفتاة التونسية/ الإيطالية التي تعمل على مساعدة المهاجرين غير النظاميين، إذ تألقت بوعبيد في أدائها الدور بإتقانها الحديث بأربع لغات هي الإيطالية والفرنسية والإنجليزية وطبعا العربية، ما قدمها منذ الموسم الماضي نجمة عالمية قادمة على مهل بملامحها المتوسطية الأصيلة.

وهي التي قدّمت في “حرقة 2” هذا العام دويتو تمثيلي رائع مع الممثل رياض حمدي فقدّما ثنائيا ناجحا جمع بين الهزل والجد، الألم والأمل، الوجع والفرح، والأمر ذاته انسحب على الثنائي رياض حمدي مرّة أخرى في دور “مجيد” والنجم التونسي المُقيم في إيطاليا أحمد الحفيان في دور “لمين”، فكان لقاؤهما بما يحملانه من تناقض صارخ في الطباع “أُفاح” (بهارات) العمل.

كما برز أيضا ثنائيّ آخر لا يقلّ أهمية عمّا سبق مُجسّدا في مالك بن سعد في دور فارس والهادي كريسعان في دور صابر رجل المافيا التونسي الذي يُتاجر في المخدرات ويأتي كل الممنوعات حتى الإرهاب، فجاء دورهما مُتّسقا مع واقع بعض المُهاجرين غير النظاميين الحالمين بالجنة الموعودة في الضفة الشمالية من المتوسّط فتقذف بهم الحاجة إلى طريق اللاّعودة.

وواصل مهذّب الرميلي في “حرقة 2″ ما بدأه في الجزء الأول من العمل، وقبلهما ما حفره عميقا بأدائه المُلهم و”المُستلهم” أيضا في “نوبة 1 و2” لعبد الحميد بوشناق، وما مشهده الصولو في المحكمة الإيطالية إلاّ دليل على قوّة أدائه، ولو أنّ اللقطة مُستوحاة وبشكل كبير من مشهد مطوّل للراحل المصري أحمد زكي في فيلم “ضدّ الحكومة” مع بعض الارتجال الرميلي.

وفي السلسلة البوليسية “13 نهج غاري بلدي” التي عرضتها قناة “التاسعة” الخاصة في الجزء الأول من شهر رمضان، قدّم الممثل المخضرم الأسعد بن عبد الله واحدا من أجمل أدواره عبر شخصية المحقّق محرز، مُحقّقا من خلاله المُعادلة الصعبة في جمعه بين رضا الجمهور وتثمين النقاد، وهو الذي اختير في المسابقة الرمضانية التي تنظمها إذاعة الشباب بالشراكة مع الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، أفضل ممثل للموسم الرمضاني الحالي، بحضوره الهادئ وتعبيراته الجسديّة الرصينة.

إلى الخلف سر

في حين تألّق كل من سبق في أدائهم في “حرقة 2″ والفوندو 2” وبعضا من “براءة”، إلاّ أن وجيهة الجندوبي أتى أداؤها ضعيفا لشخصية نعمة في “حرقة 2” مقارنة بطبيعة الدور الذي يتطلّب منها انفعالات أكثر قوة، وهي الأم التي دفعت ابنها البكر ليُغامر بركوب زوارق الموت في رحلة محفوفة بكل أنواع المخاطر، فيُربكها الندم إثر ذلك.

وما مشهد المُكالمة الهاتفية التي أتتها من ابنها فارس بعد طول انتظار وانكسار إلاّ دليلا على هذا الخفوت الذي أصاب وجيهة دون أن تدري، أو لعلّها تدري، وتلك معضلة أخرى وجب أن يطويها النسيان.

فوجيهة بطلة “منامة عروسية” و”إخوة وزمان” و”قمرة سيدي المحروس” و”المايسترو” و”الحجامة” أتحفت جمهورها في كلّ ما سبق بأدوار مرجعيّة سواء بصنفيهما التراجيدي كما الكوميدي على حد سواء، لكن أداءها في “حرقة” بجزأيه أتى فاقدا للبهاء.

وغير بعيد عن وجيهة في “حرقة” بدا أداء عزيز الجبالي في “براءة” غير مُقنع كما عوّد به جمهوره في السنوات القليلة الماضية، سواء عبر مسلسل “نوبة”  أو “كان يا ماكانش” بموسميه أيضا، إذ يبدو أن اللعب خارج جنّة عبد الحميد بوشناق، أضرّ بعزيز، أو لنقل بعبارة أدقّ أن كاميرا سامي الفهري ظلمت “الفتى الشقيّ” للدراما التونسية، فلم تُنصفه في المشاهد التي تستحقّ “كلاوز آب” (مشاهد تقريبية) المُفترض أن تجعله يُبرز انفعالاته “الوجهيّة” التي تميّز بها في أدواره السابقة، فأطنب في الصراخ وتحريك يديه كيفما اتفق في لحظات الغضب المُوغل في المُبالغة.

أما في “الفوندو 2″، فقد مثّل الأداء النمطي لنعيمة الجاني في دور خديجة أم يحيى، سقطة العمل بمُبالغتها في البكاء والنحيب بموجب أو دونه، على عكس توزيعها بحساب لدموعها في الجزء الأول من العمل، لكن يبدو أن استسهال الدور من نعيمة أربك الشخص قبل الشخصية في موسمه الثاني.

والأمر ذاته انسحب على الوجه الجديد فاطمة برتكيس ذات الأداء الشاحب في “الفوندو 2” في دور بية، ونقيضه الحارق في “براءة” من خلال شخصية حنين، وهنا يبدو أن سوسن الجمني أهملت بعض الشيء إدارة المُمثلين منتصرة للحكاية أكثر من الأداء، في حين تألّق سامي الفهري في إدارة مُمثليه على حساب السيناريو الذي جاء ضعيفا في ثُلثي العمل.

هكذا بدا المشهد الدرامي التونسي في رمضان 2022، وفيا للفرجة العائلية في “حرقة 2” و”13 نهج غاري بلدي”، ومحقّقا للصدمة ومثيرا للجدل في “الفوندو 2” و”براءة”، ومبشّرا بالقطع مع النمطية التمثيلية والإخراجية والكتابة الكوميدية في “كان يا ماكانش” ولو بشيء من التقهقر النسبي مُقارنة بالعام الماضي.