ثقافة

أزمة الفن في تونس.. بين القحط الثقافي وجفاف التمويل

“البون شاسع بين التعدّد الكمّي للتظاهرات الثقافية التونسية وبين التظاهر التونسي المبالغ فيه بالثقافة والتثاقف!؟”.. فاعلات ثقافيات يُؤكّدن

معتقلو 25 جويلية

صابر بن عامر

بميزانية جملية قدّرت بـ425 مليون و490 ألف دينار، تدخل وزارة الشؤون الثقافية التونسية مُعترك الفعل الحضاري والتأسيس الثقافي لعام 2025 بميزانية تشهد زيادة بـ3% مقارنة بـ2024، وفق ما أكّدته وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي في الجلسة العامة المشتركة مع المجلس الوطني للجهات والأقاليم لمناقشة المهمة الخاصة بوزارة الثقافة ضمن مشروع ميزانية الدولة لسنة 2025.

الرقم وإن بدا في ارتفاع مقارنة بميزانية 2024، إلّا أنه يُخفي وهنا في العديد من جوانبه، سيما أنّ غالبية نفقات الوزارة تذهب إلى التأجير والتسيير، فيما ستوجّه الزيادة الجديدة إلى نفقات الاستثمار، التي ستشهد بعد نحو أكثر من عقد من التقشّف في المجال الثقافي دون سواه، تطوّرا بـ8%.

وهو أمر محمود ومرغوب في ظل اهتراء البنية التحية لدور الثقافة، الرافد الأول والأساسي للمعرفة لدى شباب المناطق الداخلية، حيث إنّ 70% من شبكة دور الثقافة والمتكونّة من 242 دور ثقافة بكامل الجمهورية تشكو من الاهتراء والتهالك، وفق التقارير الرسمية لوزارة الشؤون الثقافية.

كَمٌّ يُخفي مُعضلة النوع

بالتوازي، لا يكفي أن يكون في تونس، على سبيل الذكر لا الحصر، أكثر من 350 مهرجانا صيفيا في بلد يبلغ تعداد سكانه نحو 12 مليون نسمة، وعدد ولاياته 24، ونسبة الأمية قاربت الـ20%، ونسبة البطالة فيه جاوزت الـ15%؟ فالبون شاسع هنا بين التعدّد الكمّي للتظاهرات الثقافية التونسية وبين التظاهر التونسي، المبالغ فيه أحيانا، بالثقافة والتثاقف!؟

أيام قرطاج السينمائية، أيام قرطاج المسرحية، أيام قرطاج الموسيقية، أيام قرطاج الشعرية، أيام قرطاج الكوريغرافية، أيام قرطاج لفنون العرائس، أيام قرطاج للفن المعاصر، أيام قرطاج للهندسة المعمارية.. كلّها مهرجانات دولية ذات خصوصية فنية محمودة في الظاهر، لكنها مذمومة في الباطن..

وهنا نذكر على سبيل المثال -المهرجان اللغز- أيام قرطاج الموسيقية الذي تنوّعت إستراتيجياته وتسمياته منذ انبعاث نسخته الأولى عام 1986، من مهرجان الموسيقى التونسية إلى مهرجان الأغنية التونسية في 2005، وصولا إلى أيام قرطاج الموسيقية الذي انفتح أكثر فأكثر مع تعاقب دوراته على العالمين العربي والإفريقي أُسوة بشقيقيه السينمائي والمسرحي.. فما الذي تغيّر؟ لا شيء، حتما.

يكفي أننا لا نستحضر لحنا واحدا ولا حتى عنوان أغنية واحدة فائزة بـ”تانيت” المهرجان، بل ولا نذكر أيضا اسم فنان واحد من زمرة الفنانين المُتوّجين، على كثرتهم؟

فما الفائدة من وراء مهرجان يستدعي ضيوفه من كل فجّ عميق، ويرصد الميزانيات الضخمة، ويذكّي روح المنافسة بين المُتسابقين بحوافز مادية مُجزية، لتُدرج أغنياتهم بعد ذلك برفوف النسيان!

الأمر ذاته، ينسحب تماما على بقية الأيام الوليدة على قرطاج بتسمياتها المُتعدّدة بين الشعرية والكوريغرافية والعرائسية والتشكيلية والمعمارية.. تجمّع ضخم على امتداد أسبوع أو يزيد قليلا، لأهل القطاع، فيتنافسون ويتسامرون ثم ينفضّ المجلس بيد خاوية وأخرى لا شيء فيها.

هي ثقافة الأرقام في تونس التي لم تنأَ بنفسها عن هذه العادة سيئة السمعة، والمتوارثة جيلا عن جيل، أو بعبارة أدق، المُتوارثة وزيرا عن وزير.

ثقافة تستعرض أرقاما تبدو في الظاهر مُبهرة، إلا أنها في باطنها تستدعي النظر والتحقيق.

إنّه الكمّ الذي يُخفي مُعضلة النوع، نوع المُنتج المعروض، ومدى توافقه مع ذائقة المُواطن التونسي الذي نُسب إليه تعسّفا أنه “شعب ذوّاق”!

الأمر الذي حدا بوزيرة الثقافة الاعتراف بأنّ تنظيم المهرجانات في تونس موكول إلى الجمعيات، ولأجل الرفع بالذائقة في هذا الخصوص، وجّهت مراسلات من أجل تجويد مضمون المهرجانات وعروضها الفنية من خلال إطلاق برامج لتطوير قدرات منظمي المهرجانات.

كل هذا جميل وأصيل، لكنّ الأكيد أنّ أزمة الفن في تونس في تفاقم، رغم بعض بوادر الإصلاح المذكورة آنفا.. فأيّ مصير للفكر التونسي وسط استمرار القحط الثقافي وجفاف التمويل؟

سؤال طرحته بوابة تونس على بعض الفاعلات الثقافيات في تونس من صحفيات وناشرات وأكاديميات، فأجمعن على ضرورة انخراط الدولة والخواص يد بيد في الفعل الثقافي للنهوض بالفنون التونسية وصناعها.

سيماء المزوغي: على الدولة والخواص الإيمان بالجانب التنموي والاقتصادي للثقافة 

عن أزمة الفن في تونس تقول الصحفية سيماء المزوغي: “يعكس وضعا معقدا يتداخل فيه القحط الثقافي مع جفاف التمويل، ممّا أدّى إلى انتكاسة واضحة للفعل الثقافي بمختلف تجلياته”.

وتسترسل موضّحة: “تعاني المؤسّسات الثقافية والفنانين من تقلّص الدعم الحكومي، الذي كان لسنوات طويلة العمود الفقري للمشهد الثقافي، حيث أدّت الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد إلى تراجع كبير في الميزانيات المخصّصة للثقافة، ممّا انعكس سلبا على جودة الإنتاج واستمراريّته”.

وفي ذلك تُشدّد المزوغي، أنّه وفي الوقت نفسه، “لم يكن القطاع الخاص بديلا كافيا، إذ يظلّ إيمان الشركات بمشاريع الثقافة محدودا، ما يعكس غياب رؤية إستراتيجية للثقافة على أنها عامل تنموي واقتصادي”.

وهي ترى أنّه “في ظل غياب التمويل الكافي، تراجعت الفعاليات الكبرى مثل المهرجانات والمسرحيات، واضطّر العديد من الفنانين إلى الهجرة أو التخلّي عن مشاريعهم الإبداعية، ممّا عمّق أزمة القحط الثقافي، وأفقد الجمهور شغفه بالأنشطة الثقافية”، وفق تقديرها.

ومع ذلك تطرح المزوغي بديلا ثقافيا -وفق تصوّرها- في محاولة منها لإنقاذ الثقافة التونسية من التكلّس والتيبّس، من خلال إعادة النظر في سياسات التمويل، سواء عبر تعزيز دعم الدولة أو خلق شراكات مستدامة مع القطاع الخاص، مع تقديم حوافز حقيقية تجعل الاستثمار في الثقافة مجديا، “لأنّ الثقافة ليست رفاهية بل ضرورة لبناء مجتمع واعٍ ومبدع”، وفق تصريحها لبوابة تونس.

إيناس المي: التشبّع بالفن والثقافة لا يختلف عن الشبع الغذائي

غير بعيد عن طرح سيماء المزوغي الجامع بين التفاؤل والتشاؤم بمدى قدرة الفعل الثقافي التونسي على التغيير وسط استفحال القحط الثقافي وجفاف التمويل واستمراره لعقود، ترى الصحفية إيناس المي القحط أو التصحّر الثقافي -وفق تعبيرها- من أبشع المراحل التي يمكن أن تصل إليها المجتمعات، “لأنّ تبعاته السلبية عديدة على الفرد والمجموعة، وأيضا على الأجيال القادمة”.

فالتشبّع بالفن والثقافة -من وجهة نظر المي- لا يختلف كثيرا عن الشبع الغذائي، حيث إنّ الثقافة غذاء للروح والفكر، وهي ترى في توفّر عقلية المثقف النشيط الساعي إلى استمرارية الفعل الثقافي رغم الأزمات، “ضرورة” لا محيد عنها لأيّ مجتمع طامح للارتقاء.

وتقرّ المي في هذا الخصوص بضرورة دعم الدولة للفن والثقافة وللمثقفين، بل تراه أمرا حتميا يندرج ضمن مسؤولياتها وأولوياتها.

وعن واقع الفنون في تونس، حاليا، تؤكّد الصحفية التونسية: “أنّنا بتنا اليوم على الحافة، فلا ازدهار للفعل الثقافي بشكل ملفت، ولا إشعاع لأسماء كبرى مؤثرة وفاعلة، تمنحنا محتوى قيّما وثريا في المجمل، ولا تدحرجنا نحو الانتكاسة الفعلية بفضل ظهور عدد من الأعمال التي تُعدّ بقع ضوء أنارت عتمة المشهد الثقافي بالبلد”، فالوضع -فق تقديرها- في مرحلة الما بيْن.

وتُعدّد المي مجموعة من العوامل ساهمت في وصول فنونا وثقافتنا إلى هذه المرحلة، مؤكّدة أنّ أزمة الفن والثقافة في تونس ليست نتيجة لجفاف التمويلات فقط، بل هي أزمة حوكمة رشيدة، وأزمة نقص في ملكة الإبداع والتجديد والخلق لدى أهل المهنة في حدّ ذاتهم.

كما ترى أنّ سعي المُستشهرين نحو الأرباح الطائلة والسريعة أثّر في اختياراتهم ورهاناتهم على الأعمال الفنية.. وجملة هذه العوامل تجمّد الفعل الثقافي أو تُساهم في انحداره وتخلق أزمة فنية ملموسة.

وفي سياق متصل، تُشدّد المي على ضرورة استمرار انخراط الدولة في دعم الجهد الثقافي على ألّا يقتصر على أسماء بعينها، وأن ينفتح على الشباب، ويختار بعناية المضامين التي تستحقّ الدعم ومدى جديتها وجودتها مع توفير المتابعة الدقيقة لمسارات الدعم.

كما لا تستثني في هذا أهل القطاع، الذين تراهم معنيين بدورهم بالابتعاد عن التسطيح والاستسهال والبحث عن الشهرة دون التركيز على المضمون.

ومع كل هذا تقرّ الصحفية التونسية بأنّه لا يجب إنكار أنّ المال هو قوّام الأعمال، وهو “السيّد” الذي لا يتحكّم فقط بالعديد من المجالات، أهمها الاقتصاد، بل هو أيضا متحكّم رئيسي في المسار الثقافي وإنجازاته، وهو “أمر جديد علينا”، وفق تقديرها.

وتوضّح إيناس المي طرحها بالقول: “لئن كانت سلطة المال حاضرة دائما، فإنها لم تحضر يوما بالطريقة التي تحضر بها خلال السنوات الأخيرة، فرأس المال اليوم لا يعنيه إلّا الربح والمردودية المادية مهما كانت النتائج.. وعليه أصبحنا نعيش عموما تغيّرات جذرية للثقافة في معناها وأهدافها وتوجّهاتها لنعيش “سلعنة” للفن والثقافة وسوقا استهلاكية للعرض والطلب”، لتخلص إلى استنتاج مفاده أنّ “الثقافة باتت اليوم في قبضة المال”، وفق توصيفها.

حذام خريّف: تغوّل رأس المال أسهم في “سلعنة” الفن والثقافة الوطنيتين

“دون دعم الدولة وإيمان المستشهرين بالمشروع الثقافي والفني لا يمكن تحقيق أيّ تقدّم، خاصة أنّ تكلفة مثل هذه المشاريع عالية، وبالتالي سيكون المقابل الذي يدفعه الجمهور (المواطن العادي) باهظا.. وهنا يختلّ التوازن”، وفق هذا الطرح تذهب بدورها الصحفية والناشرة حذام خريّف إلى ما ذهبت إليه سيماء المزوغي وإيناس المي.

وتسترسل موضّحة: “هذا التوازن يمكن أن يخلقه دعم الدولة من جهة و/أو دعم المستشهرين.. لكن هذا الوضع صار صعبا في تونس اليوم، فالمستشهر -وفق تجربتها- يفرض قيوده وشروطه، والدولة لديها أولويات اقتصادية أخرى مقارنة بالثقافة والفن، رغم أنّ هذا القطاع يمكن أن يكون قطاعا اقتصاديا بمردودية مهمة وعوائد لا يستهان بها”.

ومع ذلك، تقرّ سليلة آل خريّف، أنّ التعامل مع الشأن الثقافي في تونس ما يزال يُؤخذ على أنّه مجال للترفيه والتسلية، وهو ما يتسبّب في انتكاسة الفعل الثقافي لا فقط على مستوى المردود والكم، بل أيضا على مستوى النوع، فغياب الدعم العمومي، أو تقلّصه، مقابل حضور دعم المال الخاص (الإشهار) سيوّجه الدفة نحو ذائقة فنية وثقافية تجارية، من خلال “سلعنتها” فترذيلها”، وفق تقديرها.

سهير اللحياني: التقصير الإعلامي في جانبيه العمومي والخاص أضرّ بالثقافة

في مقابل كلّ ما تقدّم، تعزو سهير اللحياني الأستاذة الجامعية والباحثة في علوم الإعلام والاتصال، أزمة الفن التونسي وثقافتها إلى التقصير الإعلامي في جانبيه العمومي والخاص، وهي في ذلك تقول: “في وزارة الشؤون الثقافية، يوجد مكتب إعلام، وكذلك في مدينة الثقافة، حيث تمتلك كل مؤسّسة تقريبا مكتبا خاصا بها.. لكن للأسف، في المندوبيات الجهوية للشؤون الثقافية لا توجد مكاتب إعلام أو مكلفون مختصّون بالإعلام والاتصال”.

وتسترسل: “المتوفّر حاليا، هو رؤساء مصالح تحمل اسم “مصلحة الاستقبال والاتصال”، وهي خطة موجودة منذ سنوات طويلة، ولكنها تظل خطة وظيفية بحتة”.

وهي تفترض أن “تضمّ المندوبيات مكتب إعلام، ولو كان صغيرا، أو تُعيّن مكلّفا بالإعلام والاتصال”، تتمثّل مهمته -وفق تقديرها- في تسليط الضوء على الفعاليات الثقافية في الجهة وتعزيز إشعاعها عبر إعداد بلاغات وتقارير صحفية باللغتين العربية والفرنسية أو على الأقل باللغة العربية، وتوزيعها على وسائل الإعلام.

وهذا المكلّف الدائم بالإعلام والاتصال يتعيّن عليه -وفق الأستاذة الجامعية- التنسيق بين منظمّي التظاهرات وممثلي وسائل الإعلام المحلية لإبراز المجهودات الثقافية المبذولة، بل تذهب اللحياني إلى أكثر من ذلك موضّحة: “وإذا كانت وزارة الشؤون الثقافية تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة لتوظيف صحفيين محترفين، فيمكنها اللجوء إلى عقود عمل مؤقتة محدّدة بالزمان والمكان”.

وفي خصوص الإعلام الثقافي، ترى الباحثة في علوم الإعلام والاتصال أنّه لا توجد في تونس مؤسسات إعلامية متخصّصة في الشأن الثقافي، باستثناءات قليلة جدا مثل موقع “الأيقونة” الخاص.

ومع ذلك، تقرّ اللحياني أنّه “لدينا أقسام وصفحات ثقافية في بعض المواقع والصحف.. فيما ترى تفاوتا في الاهتمام بالأخبار الثقافية لدى الإذاعات بصنفيها العمومي والخاص؛ حيث يواصل الإعلام العمومي الاهتمام بالوتيرة نفسها تقريبا، في حين يتّسم الإعلام الخاص بالتباين، إذ لا تهتمّ جميع الإذاعات بالثقافة”، وهو ما يقلّل من إشعاع الفعل الثقافي على عموم التونسيين.

فيما تخلص سهير اللحياني إلى أنّ التلفزيونات كانت تشهد وما تزال نقصا كبيرا في الاهتمام بالمجال الثقافي، وإن توفّر -على قلّته- فهو ترفيهي استهلاكي لا أكثر.